مضى خمس سنوات كاملة من
الإعداد والتجهيز المغولي للحرب الكبيرة على بغداد، وفي هذه السنوات: • - أصبحت كل الطرق بين
الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصُنعت
العربات اللازمة لنقل المعدَّات الثقيلة، وفُرِّغت السهول والطرق من المواشي لترك
الأعشاب لخيول التتار.
• - سيطر
التتار على كل المحاور المهمَّة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق؛
وبذلك تحقَّقت مهمَّة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي.
• - توافرت
لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود
العباسيين وحالتهم العسكرية، واطَّلع اطِّلاعًا كاملاً على خبايا الاقتصاد
الإسلامي، وتوافرت له -أيضًا- معلومات عن عناصر القوَّة والضعف في الخلافة
العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات
عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم.
كل هذه المعلومات
توافرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز
المهمَّة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحيانًا إلى الاتصالات مع الأمراء
والوزراء كما وضحنا.
• - عقد التتار معاهدات
وتحالفات مع نصارى الأرمن والكُرْج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة
العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة.
• - تم تحييد ملوك أوربا
الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسيًّا في المقام الأول؛ إنما كان عن
طريق السلطان وفرض
الكلمة بقوَّة الرأي والسلاح. • - تمَّ
الاتفاق مع معظم أمراء الممالك
الإسلامية المحيطة
بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يُعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير
المشروطة لهولاكو؛ وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء
الأمراء كانوا من الأكراد من حفدة صلاح الدين الأيوبي!
• - تأكَّد
هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، واستوى في ذلك
الحكَّام والمحكومون.
• - أقام
هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه
التامَّ له.
• - تيقَّن
هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلَّة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن
يُدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!
• - أدرك
هولاكو كل شيء عن الخليفة «المستعصم بالله» خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته،
وقدَّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه.
تمَّت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654 هجرية. وبناءً عليه أدرك هولاكو أن المناخ العامَّ أصبح
ملائمًا للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، وإسقاط بغداد؛ فبدأ عملية حشد هائلة
للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش للتتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان؛
بحيث كان الجنود المكلَّفُون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف
الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوَّات المكلفة
بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق
الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
تركيبة الجيش التتري كما يلي:
#أولاً: الجيش التتري الأصلي؛ الذي
كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأَذْرَبِيجَان شرق العراق. - #ثانيًا: استدعى هولاكو فرقة من جيش
التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا
الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير «باتو» (فاتح
أوربا)، ولكن باتو لم يأتِ بنفسه؛ وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان «باتو»
وعائلته قد كوَّنُوا دولة مستقرَّة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم
اسم القبيلة الذهبية، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم؛ فإنهم كانوا في
النهاية يتبعون زعيم التتار «منكوخان».
- #ثالثًا: أرسل هولاكو في طلب فرقة
من جيش التتار المكلَّف بفتح أوربا؛ الذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال
تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير «بيجو»، وقد جاءت هذه
الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومُتَّجِهة إلى بغداد، ولم تلقَ أي نوع من
المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حُكَّام هذه المناطق المسلمة كانوا قد
أفرغوا المجال الأرضي لقوَّات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل
وحلب وحمص!
- #رابعًا: أرسل هولاكو إلى «صديقه»
ملك أرمينيا يطلب المساعدة؛ فجاءه «هيثوم» ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه.
- #سادسًا: استدعى هولاكو ألفًا من
الرماة الصينيين المهرة؛ الذين اشتهروا بتسديد السهام المحمَّلة بالنيران[2].
- #سابعًا: وضع هولاكو على رأس جيوشه
أفضل قوَّاده، وكان اسمه «كتبغا نوين[3]» [4]، وفوق إمكانياته القيادية والمهارية
فإنه كان
نصرانيًّا؛ وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية
المشاركة في الجيش، وبذلك ضمَّ الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر
القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو.
- #ثامنًا: راسل هولاكو أمير أنطاكية
«بوهيموند السادس»، ولكن تعذَّر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه
كان على استعداد تامٍّ للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام.
وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين؛ فإنهما كانتا تحملان معاني
كثيرة، فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين! بل قد
يُشارك في عملية «تحرير العراق» عراقيون متحالفون مع التتار! عراقيون باعوا كل شيء
في مقابل كرسي صغير، أو إمارة تافهة، أو دارهم معدودات، أو مجرَّد حياة.. أي حياة!
وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من
فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطَّة المعركة.
• - وبدراسة
مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في
غرب فارس وشرق العراق سوف تمثِّل خطورة على الجيش التتري؛ فطائفة الإسماعيلية
مشهورة بقوَّة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان؛ ومع أن
التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم
راسلوا قبل ذلك التتار ليدلُّوهم على ضعف جلال الدين بن خُوارِزم قبل مقتله في سنة
629 هجرية، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلَّفون لأصحاب القوَّة، مع كل هذه
الاعتبارات فإن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرَّك الجيوش
التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوَّات عسكرية للإسماعيلية،
هذا إضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية؛ فقد قتلت الإسماعيلية ابنًا
من أبناء جنكيزخان اسمه «جغتاي[6]»، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر
من ثلاثين سنة!
• - لم
ينسَ التتار هذا الثأر؛ لأنه يخصُّ ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها
شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من عائلة جنكيزخان نفسها، ويعتبرون الثأر من
الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة؛ حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم
ابنة «جغتاي» القتيل القديم؛ وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها
بالثأر لأبيها.
• - كل
هذا دفع التتار إلى العزم على التخلُّص من الإسماعيلية نهائيًّا، وصدرت الأوامر من
قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.
• - وتحرَّكت
الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو
حصن «آلموت» في غرب فارس، وما هي إلاَّ أيام حتى تمَّ تطويق الحصن المنيع، ولما
شاهد زعيم الإسماعيلية «ركن الدين خورشاه» هذه الأعداد التي لا تُحصى طلب أن
يُقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل
الوصول إلى بغداد، والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل
لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة[7]، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمَّم على
القتال عاصيًا بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عَنْوَة بعد
ذلك بأيام، وذبحوا كل مَنْ فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى
«منكوخان» ليتفاوض معه شخصيًّا في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود،
وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطًا بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن
يُقابله واستحقره جدًّا؛ وقال: «إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة
في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة». ثم أمر جنوده بإعادة ركن
الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قُتل ركن الدين خورشاه كما يقولون «في ظروف
غامضة». وإن كانت الظروف ليست بغامضة؛ فمن الواضح أن «منكوخان» قد أوصى بقتله،
ولكن خارج البلاط المغولي؛ لئلاَّ يُتَّهم البلاط بالغدر[8]!
• - وبعد
قتل #ركن_الدين_خورشاه قام «هولاكو» بخدعة
خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم،
والتعاون معًا لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء
الإسماعيلية من كل مكان؛ حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى
ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو -كما يزعم- يخشى أن يضخم الإسماعيلية
أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر؛ وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم،
حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو
بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كلَّ مَنْ أمسكه في يده[9]، ولم ينسَ أن يأخذ مجموعة من
الرجال إلى «سالقان خاتون» ابنة «جغتاي» وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها؛ لتأخذ
بثأر أبيها «جغتاي» المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك[10].
وهكذا تمَّ في خلال سنة 655 هجرية استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه
المنطقة كلها تقريبًا، ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو
العراق، ولم يأتِ في عملية الإحصاء المزعومة.
وبذلك أصبح الطريق آمنًا مفتوحًا إلى بغداد؛ وبدأت الجيوش المغولية
الرابضة في فارس تزحف ببطء -ولكن بنظام- في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن
اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة جدًّا!
• - وقبل
التحدُّث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أُشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في
شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار «بهولاكو»، أو
إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مسوِّغٍ واضح للنتائج الرهيبة
التي حدثت عند سقوط بغداد؛ فالناظر إلى الأحداث دون تعمُّق، والدارس للأمر دراسة
سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار -وهم من أخس أهل الأرض، ومن
الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات- أن يفعلوا كل هذا الذي
فعلوه بالمسلمين، والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله؛ المقيمين للصلاة،
والقارئين لكتاب الله؟!
فأحببتُ أن أتجوَّل معكم في هذا الإعداد الطويل المرتَّب، الذي لم
يُقابل بأقلِّ درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى، والبلية
العظمى!
إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحِّدين المسلمين، ولا يعدُّ
العدَّة ولا يأخذ بالأسباب واهمٌ في إمكانية تحقيق النصر؛ إن التتار لم ينتصروا
على المسلمين لكرامة لهم عند الله عز وجل، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن
أسوئهم أخلاقًا، ولكنهم أعدُّوا العدَّة، وأخذوا بالأسباب؛ فتحقَّقت على أيديهم
النتائج التي خطَّطُوا لها.
وهذه سُنَّة مطَّردة؛ وكثيرًا ما رأينا اليهود أو النصارى أو
البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويُكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء
بالأسباب المادِّيَّة، وتركها المسلمون.
وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب
المادِّيَّة فقط ويتركوا مسبب الأسباب –سبحانه-؛ إنما المقصود هو العمل الجادُّ
الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله عز وجل طلبًا للتوفيق والنصر، وإذا تمَّ
النصر علمنا أنه من عند الله عز وجل، ولم نتكبَّر أو نتجبَّر أو نعتقد في خروجنا
عن دائرة حكم الله عز وجل.
والتاريخ -يا إخواني- يتكرَّر. وما فعله التتار من إعداد ضدَّ المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك. وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله
المسلمون بعد ذلك أيضًا.
وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك
الصورة، فلا شكَّ أن النتائج في عصرنا ستأتي على الصورة نفسها إذا لم يفقه
المسلمون الأمر ويعيدون ترتيب أوراقهم وفقًا للفهم الصحيح. ولذلك نقصُّ التاريخ.