الموت كلمة مكونة من ثلاثة أحرفٍ
تثير الرعب في قلوب الخلائق، ذلك الذي ترتعد الفرائص عند ذكره، مخيف، غامض، مفزع،
كريه، بغيض للنفس الإنسانية بل وحتى للبهائم، إذا شعر الفيل بدنو أجله فإنه يهجر
القطيع إلى مكانٍ بعيدٍ ليلقى حتفه هناك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأسد وبعض
الحيوانات الأخرى، وإذا وقع الحيوان في فخ حيوانٍ آخر فإنك ترى في عينيه الرعب
والجحوظ والخوف من الموت.
وكما أن الخوف من الموت أم حتمي،
إلا أنه لا يستطيع أحد أن يفرَّ من الموت، مهما علا شأنه، أو تنوعت قدراته، ولذا
فقد رأينا فرار الزعيم محمد بن خُوارِزم شاه من جند التتار، حتى وصل به المقام إلى
جزيرة في وسط بحر قزوين، فعاش في فقر شديد، وحياة صعبة؛ بعد أن كان ملكًا يملك
بلادًا شاسعة، وأموالًا لا تُعَدُّ! .. ولكنه رضي بحياته الجديدة فررًا من الموت! لكنه
لم يلبث إلا أيام، حتى مات محمد بن خُوارِزم في هذه الجزيرة داخل القلعة وحيدًا
طريدًا شريدًا فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يُكَفِّنُونه به، فكفَّنُوه في فراش
كان ينام عليه!
----------------------------
• -أيهما أشرف.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلًا في هذه الجزيرة في عمق البحر؛ أم يموت رافع الرأس ثابت الجأش مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟!
• -أيهما أشرف.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلًا في هذه الجزيرة في عمق البحر؛ أم يموت رافع الرأس ثابت الجأش مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟!
• -أيهما أشرف.. أن يموت مقبلًا أم أن
يموت مدبرًا؟!
• -أيهما أشرف.. أن يموت هاربًا أم أن
يموت شهيدًا؟!
إن الإنسان لا يختار ميعاد موته،
ولكنه يستطيع أن يختار طريقة موته؛ الشجاعة لا تقصر الأعمار، كما أن الفرار والهرب
والجبن لا يطيلها أبدًا! والذي يعيش مجاهدًا في سبيل الله يموت مجاهدًا في سبيل
الله، وإن مات على فراشه.
• - روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ
بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»[1.
• - ويحكي لنا ابن
الأثير عن سيرة «محمد بن خُوارِزم شاه» الذاتية؛ لنجد فيها أمورًا
عجيبة، فعندما تقرأ صفته تجد أنك أمام عظيم من
عظماء المسلمين، فإذا راجعت حياة الرجل الأخيرة وخاتمته وفراره وهزيمته تبدَّى لك
غير ذلك... فما السرُّ في حياة هذا الرجل؟!
يقول ابن الأثير في ذِكر سِيرَته:
«وكانت مدَّة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورًا تقريبًا، واتَّسع ملكه وعظم محله،
وأطاعه العالم بأسره، وملك من حدِّ العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة في
أفغانستان وبعض الهند، وملك سِجِسْتَان وكَرْمَان "باكستان"، وطبرستان
وجُرْجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس (وكلها مناطق في إيران)»[2].
من هذه الفقرة يتَّضح أنه كان
عظيمًا في مُلكه؛ استقرَّ له الوضع في بلاد واسعة لفترة طويلة، ومن هنا يظهر حسن
إدارته لبلاده؛ حتى إن ابن الأثير يقول في فقرة أخرى: «وكان صبورًا على التعب
وإدمان السَّير، غير متنعِّم ولا مقبل على اللَّذَّات، إنما همُّه في المُلْك
وتدبيره، وحفظه وحفظ رعاياه»[3].
وعندما تحدَّث عن حياته الشخصية
العلمية، قال: «وكان فاضلًا عالمًا، وكان مُكرِمًا للعلماء، محبًّا لهم محسنًا
إليهم، يُكثر مجالستهم ومناظرتهم بين يديه، وكان معظِّمًا لأهل الدين، مقبلاً
عليهم، متبرِّكًا بهم»[4].
هذا الوصف لمحمد بن خُوارِزم شاه
يُمَثِّل لغزًا كبيرًا للقارئ! فكيف يكون على هذه الصفة النبيلة، ثم تحدث له هذه
الهزائم المنكرة؟! وكيف لا يجد جيشًا من كل أطراف مملكته الواسعة يصبر على حرب
التتار، حتى ينتهي هذه النهاية المؤسفة؟! وكنتُ في حيرة من أمري
وأنا أُحَلِّل موقفه؛ لولا أَنِّي وجدت نصًّا في مكان آخر عند ابن الأثير -أيضًا-
يُفَسِّر كثيرًا من الألغاز في حياة هذا الرجل، وفي تفسير هذه الحقبة من حياة
الأُمَّة الإسلامية..
• - يقول ابن الأثير:
«وكان محمد بن خُوارِزم شاه قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو
وحده سلطان البلاد جميعها، فلمَّا انهزم من التتار لم يبقَ في البلاد مَنْ يمنعهم
ولا مَنْ يحميها»[5].
في هذا النصِّ تفسيرٌ واضح جَلي
لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت؛ لقد كان «محمد بن خُوارِزم
شاه» جيدًا في ذاته وفي إدارته، لكنه قطع كل العلاقات بينه وبين مَنْ حَوله من
الأقطار الإسلامية، لم يتعاون معها قط، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى،
وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمُّها إلى مملكته، ولا شكَّ أن هذا خَلَّف أحقادًا
كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء، ألم يَكُن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا فتح بلدًا يُوَلِّي زعماء هذه البلدة عليها ويحفظ لهم
مكانتهم ويُبقي لهم ملكهم؛ فيضمن بذلك ولاءهم وحب الناس له، فأبقى على حُكم
البحرين ملكها المنذر بن ساوى، وأبقى على حكم عمان ملكَيْها: جيفر وعباد؛ بل وأبقى
على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم.. وهكذا. هذه سياسة وحكمة في آنٍ معًا؛ هذا مزج جميل بين
الحزم وبين الحب، هذا أسلوب راقٍ في الإدارة.
أمَّا هنا في قصَّتنا.. فقد افتقد
الزعيم محمد بن خُوارِزم هذا الجمع الحكيم بين الحب والحزم، وأصبح حاكمًا بقوَّتِه
لا بحب الناس له، فلمَّا احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر
إليهم، فلم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخُوارِزمية فقط، بل قامت
الدولة الخُوارِزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية، ومكائد كثيرة، ومؤامرات عديدة؛
فلم تتوحَّد القلوب في هذه البلاد؛ ومن ثَمَّ لم تتوحَّد الصفوف ولم يحدث النصر؛
وما كان للنصر أن يتحقَّق والأُمَّة على هذا النحو..
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. كان
هذا هو سرُّ اللغز في حياة قائد عالم فقيه اتَّسع مُلكه وكثرت جيوشه، ثم مات
طريدًا شريدًا وحيدًا في جزيرة نائية في عمق البحر؛ وصدق الرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم إذ يقول: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ
القَاصِيةَ»[6]. أي يأكل الغنم القاصية. ولننظر ماذا فعل التتار
بعد أن هرب منهم «محمد بن خُوارِزم شاه»؟
ماذا فعلت الفِرقة
التي تبلغ عشرين ألف فارس فقط؛ وقد توغَّلت في أعماق الدولة الإسلامية؟