1- لقد شملت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان والحيوان والطير والنبات، وكذلك شملت البيئة التي نعيش فيها! هذه البيئة هي نعمة من نعم الخالق أمرنا الله تعالى أن نحافظ عليها ولا نفسدها. فالأرض التي هيَّأها الله وجهزها لنا لنحيا عليها حياة سعيدة، ينبغي ألا نلوثها أو نفسد فيها أو نسيء معاملتها، لأن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة، وبالفعل نرى اليوم التلوث والاحتباس الحراري وظاهرة التصحر والتغير المناخي... وكلها لم تكن معهودة من قبل. يقول عز وجل: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]. وقد أثبت العلماء أن الأرض كانت ملوثة قبل آلاف السنين ثم أصبحت صالحة للحياة، بما يتطابق مع النص القرآني: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أي أن الله تعالى جعل جو الأرض نقياً بعد أن كان غاز الكربون يخيم على الأرض.
2- يعترف علماء الغرب بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رائد علم البيئة الحديث، ففي تعاليم هذا النبي الكريم نجد الكثير من الأحاديث التي تأمرنا بالحفاظ على البيئة وعدم الإسراف أو الإفساد في الأرض، فهذه الباحثة "فرانسيسكا دو شاتِل" تقول: يمكن القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رائد من رواد الحفاظ على البيئة لأننا إذا تأملنا الأحاديث النبوية بشيء من التدبر، لرأينا أن النبي الأعظم كان واحداً من أشد المنادين بحماية البيئة. بل إنه كان في نصرته للبيئة سابقاً لعصره، أي رائداً في مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحداً من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. فكما نعلم جميعاً كيف جاءت تعاليم هذا النبي الرحيم لتنظم حياة الناس بشكل منسجم مع بيئتهم، فقد أمر النبي بالاعتناء بالطرقات والشوارع فأمر بإماطة الأذى عن الطريق واعتبر ذلك نوعاً من أنواع الصدقَة قال النبي الكريم: ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) رواه البخاري ومسلم.
3- تقول الباحثة فرانسيسكا دو شاتِلْ، في كتاب "محمد عليه السلام رائد الحفاظ على البيئة": لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم من الدعاة الأقوياء للاستخدام الرشيد للأرض والماء واستثمارهما، وكذلك المعاملة الكريمة للحيوانات والنباتات والطيور، والحقوق المتساوية لمن يتعاملون معها من البشر. وفى هذا السياق فإن حداثة رؤيته للبيئة وحداثة المفاهيم التي جاء بها في هذا المجال لما يَشْدَه العقل شَدْهًا، حتى لتبدو بعض أحاديثه وكأنها مناقشات عصرية حول قضايا البيئة.
ويمكن القول بأن العصر الذي بُعث فيه النبي الكريم كانت الجاهلية تسيطر على عقول البشر، فكان الناس ينظرون إلى الحيوانات على أنها مخلوقات لا قيمة لها وليس لها مشاعر أو أحاسيس. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين بالاهتمام بالمخلوقات، حتى إنه سمى أحد الصحابة الأجلاء باسم "أبو هريرة" تشجيعاً له وتأييداً لاهتمامه بالقطط والعطف عليها. ولذلك استحق هذا النبي أن يكون رحمة للعالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
4- جاء في كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم رائد الحفاظ على البيئة، أن النبي كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار. إن فلسفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم البيئية هي أولاً وقبل كل شيء فلسفة شاملة مترابطة، إذ تقوم على أن هناك صلة أساسية وارتباطاً متبادلاً بين عناصر الطبيعة، كما أن نقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافاً فإن العالم الطبيعي برُمّته سوف يتضرر أضرارا مباشرة. وفى اعتقاده أن جميع مخلوقات الله متساوية أمامه سبحانه، وأن الحيوانات، وكذلك الأرض والغابات وينابيع المياه، ينبغي أن يكون لها حقوق تُحْتَرَم. فقد كرّم القرآن النبات قبل قرون طويلة ووصفه بالكريم! يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء: 7]. ويقول أيضاً: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [لقمان: 10].
5- ينادي العلماء اليوم بضرورة الحفاظ على البيئة من خلال الاعتناء بالنظافة للشوارع والمدن وهذا يؤثر إيجابياً على سلامة الإنسان والنبات والحيوان... وتقول الباحثة فرانسيسكا دو شاتِلْ إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم اعتنى واهتم بالبيئة وبخاصة الأرض حيث جعل التراب مادة طاهرة وبالفعل أثبت العلم أن التراب يحوي مضادات حيوية تقتل الجراثيم... يقول صلى الله عليه وسلم: "جُعِلت لي الأرض مسجداً وطهورا" في هذا الحديث إشارة نبوية رائعة إلى طهارة تراب الأرض، وضرورة الحفاظ على هذه الأرض لأن المؤمن يسجد عليها، وبالتالي ينبغي الاعتناء بالأرض وعدم العبث بها.
6- يقول بعض الباحثين الغربيين المنصفين بعد أن قرأوا أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حتى في ذبح الحيوان نجد النبي الرحيم يبدى قدراً عظيماً من الرقة والرحمة. وعلى الرغم من أنه لم يكن نباتياً فإن الأحاديث تبين لنا بوضوح أنه كان حساساً للغاية تجاه معاناة الحيوانات حتى كأنه كان يشاركها ألمها مشاركة وجدانية. ومن هنا نجده يأمر باستعمال سكين حاد في الذبح واتباع طريقة مسؤولة من شأنها أن تزهق روح الحيوان سريعاً بحيث يخف ألم الذبيحة إلى أقصى درجة ممكنة. كما نهى عن ذبح أي حيوان أمام غيره من الحيوانات أو إحداد الشفرة بحضرته، وإلا فكأنه قد ذبحه مرتين حسبما جاء فى حديثه لمن كان يُحِدّ شفرته فى حضور ذبيحته، إذ قال له مستنكرا: "أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟" ألا يستحق هذا النبي الكريم كل احترام وتقدير؟
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
7- تعاني شعوب العالم اليوم من قلة المياه والجفاف ولذلك يؤكد بعض الباحثين أن الحروب القادمة ستكون من أجل الحصول على الماء! ولو فكرنا قليلاً نجد أن النبي الكريم سبق علماء العصر الحديث في حرصه على عدم الإسراف في الماء حيث أمر النبي الأعظم أحد الصحابة بعدم الإسراف حتى أثناء الوضوء وقال له: "ولو كنتَ على نهر جارٍ" [رواه أحمد]... فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراف في كل شيء، حتى عندما يكون الإنسان أمام نهر يتدفق فإنه لا يجوز له أن يسرف ويهدر الماء دون حاجة أو ضرورة. وما نراه اليوم من جفاف للأنهار إلا بسبب الإسراف الشديد في استهلاك الماء.
8- أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعدم قطع الأشجار أو إحراق الغابات: حتى في حالة الحرب فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قطع الأشجار، ونهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ... وهذه قمة الرحمة أنك تعامل أعداءك في حالة الحرب برحمة ورأفة. ونهى أيضاً عن إيذاء الكائنات الحية بأنواعها، ولذلك فإن القرآن يؤكد على أهمية المخلوقات وأنها أمم أمثالنا، يقول تبارك وتعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]. فهذه النظرة للمخلوقات تجعل الإنسان واحداً منها فلا يستخفّ بهذه المخلوقات أو يعذّبها أو يسيء معاملتها.
9- يؤكد بحث حديث على ضرورة الحفاظ على مصادر المياه العذبة وعد تلويثها بأي طريقة كانت، ولذلك أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعدم تلويث الماء (من خلال منع التبول في الماء الراكد). فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول في الماء منعاً لتلويث الماء، والحفاظ على مصادر المياه. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه [رواه مسلم]. وبعد هذه الحقيقة النبوية الشريفة ، ألا يستحق هذا النبي الكريم أن يكون رائد الحفاظ على البيئة؟
10- الاهتمام بالحيوانات المفيدة مثل الخيول: فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وفي هذا إشارة إلى الاهتمام بالخيول وغيرها من الحيوانات المفيدة للإنسان. كما نهى النبي الكريم عن قتل الحيوانات أو تعذيبها فأكد في الحديث الشريف: (دخلت امرأة النار في هرَّة لأنها حبستها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض أو تطعمها حتى ماتت). ففي هذا إشارة إلى ضرورة الاعتناء بالحيوانات وعدم التسبب في موتها، وضرورة الرأفة بها.
وفي إشارة قرآنية كريمة نجد أن الله تبارك وتعالى يخبر عن أهمية المخلوقات من حولنا وأن كل الكون يسبح بحمده عز وجل فيقول: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44]. فالمخلوقات كلها تسبح الله تعالى، وبالتالي في هذه الآية إشارة إلى أن المخلوقات من حولنا لها قيمة ويجب عدم إيذائها أو الإساءة لها، لأنها تعبد الله وتسبحه!
ــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل