يعد الاستثمار (الرأسمالي) أهم
ظاهرة في التصنيع، ينبغي التعرف على أثر تكثيف استثمار المال في تنشيط
عمليات تكوين الدخل. ولعل من المفيد في هذا المجال الإشارة إلى أثر كل من
(مكرر الاستثمار (multiplier) وعامل التعجيل أو ما يسمى بالأثر الاستثماري
acceleration
لأجل تفهم طبيعة الدور الذي يلعبه (التعجيل الاستثماري) في زيادة الدخل (إذا أراد القارئ الإحاطة بصورة وافية بمضمون هذه الاصطلاحات (الكينزية) فإن عليه أن يتفهم شيئاً عن نظرية الدخل والاستخدام التي استمد كينز أهم أقسامها من مالتوس ووكسل وافتاليون) وفيما يلي بعض المراجع التي يمكن الإفادة منها لهذا الغرض.
1. ددلي ديلارد، اقتصاد جون مينارد كينز/ تيبورك طبعة 1998 ويشار بضرورة الابتداء بدراسة هذا الكتاب أولاً.
2. ألفن هانسن، الدليل في اقتصاد كينز/ نيويورك ولندن طبعة 1996.
3. سيمور هاريس، الاقتصاد الجديد/ نيويورك/ طبعة 1997.
4. جي. آر. هيكس (نظرية كينز عن الاستخدام) المجلة الاقتصادية مجلد 1987، ص238-253.
5. الدخل والاستخدام والسياسة العامة، المصدر السابق.
6. جون م. كينزالنظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود.
7. آل آر كلاين، الثورة الكينزية.
8. تي. آر. مالثوس ـ مبادئ الاقتصاد السياسي ـ راجع القسم العاشر في الفصل الأول في المجلد الثاني.
9. نت وكسل، محاضرات في الاقتصاد السياسي راجع قسم النقود في المجلد الثاني بصورة خاصة.
من المعروف أن تحليل وكسل عن الاستثمار يعد بحق الأساس الذي بنى عليه كينز نظريته العامة.
إن مبدأ مكرر الاستثمار يعترف ضمناً بأن مصادر تكوين الدخل إنما تُستمد من الإنفاق على كل من الاستهلاك وأغراض الاستثمار(باستبعاد عامل اكتناز الدخل طبعاًً) ولكنه يؤكد على أهمية الاستثمار في تنمية الدخل، بما يترتب على نمو الدخل من زيادة في الطلب على سلع وخدمات الاستهلاك والمنتجات الأخرى المصنوعة محلياً، وأن هذا مفاده تقوية الحافز إلى زيادة الاستثمار بالتبعية ويفيد مبدأ التعجيل أن زيادة الدخل ستؤدي بدورها إلى زيادة الاستثمار، وأن هذا سوف يتحقق بغض النظر عن الكيفية التي يتوزع بها إنفاق الدخل بين العمليات الاستثمارية.
ونتيجة لتداخل وتفاعل تأثيرات مكرر الاستثمار وعامل التعجيل، نرى أن الزيادة التي تتحصل أولاً في ميدان الاستثمار ـ وهي تتمثل في ظاهرة توسيع المال ثم تعميقه كما أوضحناـ لابد وأن تفضي إلى رفع مستوى الدخل العام، وكذلك نسبة ما يدخر منه، وأن هذه العلاقة من شانها أن تؤدي بنفس الكيفية إلى زيادة الاستثمار زيادات متتالية بين مرحلة وأخرى، وهكذا دواليك.
ويرجع ارتفاع الدخل في الواقع إلى مفعول الأثر الاستثماري، فعندما يزداد التكرار الانفاقي في البلاد نتيجة ارتفاع الدخل النقدي في أرجاء الصناعة(وخاصة في صناعات التصدير) فانه من المحتمل جداً أن يقبل المستثمرون على زيادة حجم استثماراتهم أو القيام بعمليات استثمارية جديدة للإفادة من الظروف السائدة،ومما لاشك فيه أن زيادة حجم الطلب تعتبر عاملاً رئيسياً يؤثر في معدل الاستثمار وحجمه، ومن المتوقع أن تغري زيادة التكرار الانفاقي (وهي توازي حجم الطلب) أصحاب رؤوس الأموال في القيام ببعض العمليات الاستثمارية التي يترتب عليها زيادة الدخول الحقيقية
والجدير بالذكر أن التكرار الإنفاقي على الاستثمار لا يتوقف على حجم الإنفاق الحكومي في كل مرحلة، وإنما يتأثر به تأثراً كبيراً عند الشروع بتنفيذ منهاج التصنيع حيث يتخذ الإنفاق الحكومي آنذاك صفة الاستثمار(المستقل) ويكون من الأهمية بمكان، الأمر الذي يغري المشاريع الخاصة على القيام باستثمارات جديدة تكون ربحيتها مشتقة من عمليات الاستثمار الحكومي،سواء جاء ذلك من تجهيز المشاريع الحكومية بالسلع والمواد الإنشائية والخدمات، أو بإنتاج قدر اكبر من سلع وخدمات الاستهلاك لسد الزيادة الحاصلة في الطلب عليها.إذن فتنفيذ هذا المنهاج يشجع المشاريع المحلية كلها على زيادة عملياتها الاستثمارية، لأنه كلما تيسر خلق دخل جديد في الاستثمارات التي تمولها الحكومة، كلما أمكن مواصلة الاستثمار بسهولة اكبر في المراحل المقبلة، والتعويل بدرجة اكبر على مساهمة المشاريع الخاصة بجانب الحكومة في كل من مجالي التمويل وتنظيم استغلال الموارد العاطلة،وهكذا يتسع نطاق تثمير الادخارات ويزداد تكثيف استثمار رؤوس الأموال في العمليات الإنتاجية، بما يترتب على ذلك استحثاث نمو القوة الشرائية،واتساع نطاق الاستخدام، ونشاط عمليات تكوين رأس المال بالتبعية، كل هذا يتوقف على إعداد وتطبيق منهاج ملائم للتصنيع، تعطى الأهمية فيه إلى زيادة حجم الإنفاق الحكومي على الاستثمار،دون التقيد كثيراً في المراحل الأولى باعتبارات الربحية(التي يتوقف عليها في المعتاد أمر استثمار الأموال الخاصة، بالإضافة إلى اعتداد الأخيرة باعتبارات توافر قوة شرائية في الأسواق لتصريف منتجاتها (.
ونرى مما تقدم أن منهاج التصنيع يستطيع أن يولد قوى توسعية كبرى تعمل على تبديل الأوضاع الاقتصادية القائمة، فهو يقوض(على درجات متفاوتة من الشدة)العلاقات والمؤسسات القديمة التي لم تعد تتلائم مع مقتضيات التقدم الاقتصادي، ويخلف تنظيمات وعلاقات ومصالح جديدة تهتم بأمر تنمية الإنتاج بالنظر لما تحصل عليه من المنافع والأرباح، وتصيبه من المغانم في الميادين التجارية والاقتصادية والسياسية كما أن الشئ الكثير يتوقف على عنصر المبادأة، فالمبادأة في القيام بالاستثمار(ربما تتخذه من أشكال توسيع الاستخدام الأفقي لرأس المال في بادئ الأمر، وتتطور إليه من تكثيف الاستثمار، تحظى بأهمية كبرى لأنه من المسلم به أن العامل الديناميكي في الجهاز الاقتصادي هو حجم الاستثمار ومعدل تغيره، وليس تغير الإنفاق الاستهلاكي الذي هو محصلة لقوى الاستثمارات والتغيرات التي تترتب عليه.
وتتجلى أهمية عامل المبادأة التي يتميز بها أول منهاج للتصنيع في إعادة توزيع عوامل الإنتاج، لاسيما تخفيف ضغط كثافة السكان في القرى والأرياف وتيسير القوة العاملة لمشروعات الاستثمار، واصلاح وسائل المواصلات وإنشاء طرق جديدة، وتنظيم عمليات استغلال الموارد الطبيعية(بما فيها المياه لأغراض الري وتوليد الكهرباء واستغلال الثروة المعدنية بما في ذلك النفط)ونشر المعرفة الفنية وما إلى ذلك من خطوات منهاج التنمية التي يمكن اعتبارها بمثابة شرارة تستخدم لإشعال نار الفعالية الاقتصادية، حتى إذا ما تم هذا سهل بعد ذلك استعجال تكوين رأس المال وزيادة الدخل.
توزيع استثمارات رأس المال:
من الواجب التنويه هنا بأن تنمية الدخل لا تتوقف على حدوث الاستثمار فحسب، وإنما على معدل سرعة زيادة الاستثمار الذي هو حاصل متوسط الإنتاجية ونسبة الادخار من الدخل الوطني.
هذا إلى أن زيادة الاستثمار تتأثر إلى حد بعيد بشكل رأس المال المستخدم في الصناعة(أي بشكل قسمة الاستثمار بين صناعات الإنتاج والاستهلاك) لابد وأن تؤثر بدورها في رفع كلفة العمليات الاستثمارية التي تضطلع بها المشاريع.
1. شكل الاستثمار في الاقتصاديات الصناعية:
يستدل في المعلومات التي نشرتها البحاثة سيمون كزنت أن البنيان الصناعي في الولايات المتحدة يقوم على ثلاثة أركان رئيسية هي:
المباني والآلات وموجودات المواد الخام ويتضح من هذه المعلومات أن مجموع قيمة رأس المال في صناعات الإنتاج الأمريكية خلال سنة 1948 كان يبلغ(64) بليون دولار في المباني الصناعية والعقارات،و(41)بليون دولار في المعامل والمعدات الصناعية و(11)بليون دولار في موجودات المواد الخام وأدوات الإنتاج (بيو كانان المصدر السابق) راجع بصورة خاصة الإحصاءات التي يتضمنها الفصل الثاني عن توزيع المال المستثمر في الصناعات المختلفة.
للاستزادة من المعلومات حول الموضوع راجع المصادر التالية.
1ـ سيمون كزنت: إلى الدخل الوطني وتكوين رأس المال/ المكتب الوطني للابحاث الاقتصادية / نيويورك.
2ـ الناتج الوطني منذ سنة 1869 نيويورك.
3ـ الدخل الوطني والبنيان الصناعي/ ملحق نشرة ايكو نومتريكا.
4ـ واسلي ليونيف. بنيان الاقتصاد الامريكي ـ كمبريدج ـ جامعة هارفارد.
5ـ كولين كلارك، شروط التقدم الاقتصادي/ لندن.
يعد المؤلف كلارك مرجعاً جيداً في التحليل الاحصائي للتطور الاقتصادي.
ولو حولنا هذه الأرقام إلى نسب لحصلنا على التوزيع الآتي: 50% من مجموع رأس المال مستثمر في مباني صناعية وعقارات و30% في معدات وسلع إنتاج ومعظم البقية مستثمر في منشآت الصناعة الكهربائية، أما جملة المال المستثمر في السكك الحديدية ومنشآت الصناعة الكهربائية فقد بلغت نسبة (45%) في المجموع.
وعلى العكس مما هي الحال في البلدان المتقدمة، نجد أن الشطر الأكبر من رأس المال المحلي في البلاد المتخلفة يستثمر في صناعات الاستهلاك ولاسيما في الزراعة التي يعرف عنها أنها تفتقر إلى التنظيم وتسهيلات الري والمكائن، وان تنميتها تتطلب تحسين كل من أساليب الإنتاج ونوع المحاصيل، بالإضافة إلى امور أخرى، ومما لا شك فيه أن درجة استغلال الموارد الطبيعية تؤثر في شكل استثمار رأس المال في أي قطاع اقتصادي، وكذلك في توزيع الاستثمار في الاقتصادات الوطنية على اختلاف ما تحظى به من التطور. وعلى ضوء هذه الحقيقة نلمس أن الاستخدام الأفقي لرأس المال في صناعات الإنتاج لا يمكن أن يؤدي إلى تركيز الاستثمار في أية صناعات معينة (وهذا ملحوظ بصورة خاصة في البلاد التي تحتل الصناعات الخفيفة الصدارة في اقتصادها، وعلى العكس من ذلك، نجد أن الاستثمار في الصناعات الثقيلة يستلزم تكثيف استخدام سلع رأس المال في كثير من العمليات الانتاجية، وذلك بالنظر لسعة نطاق الصناعة (وهذه السعة توجهها الاعتبارات الفنية للانتاج المتكامل، وعظم الحاجة إلى الآلات المختزلة للوقت والتكاليف ولا سيما طاقة العمل وما إلى ذلك من مبررات الإنتاج الكبير.
ولونظرنا إلى بنيان الصناعة في الولايات المتحدة خلال السنوات 1924 ـ 1943 فأننا نرى أن رأس المال المستثمر في صناعاتها التحويلية قد توزع على النحو الآتي: 33% في صناعة الحديد والفولاذ و11% في الصناعات الزراعية و8% في صناعة النسيج و7% في صناعة الآلات وسلع المنتجين و6% في كل من صناعتي الورق والمنتجات الكيماوية.
بعض العوامل المؤثرة في توزيع الاستثمار
ذكرنا أن درجة التطور التي بلغها الاقتصاد ـ أو بالأحرى درجة نماء الجهاز الانتاجي ـ تتحكم إلى حد ما في توزيع الاستثمار بين القطاعات المختلفة وذلك في نطاق تفضيل المستثمرين لعامل ربحية المشاريع التي يستطيعون تمويلها. وإذا تحققت اعتبارات الربحية صار من المتوقع ازدياد الاستثمار في السلع التي تتمتع بأهمية نسبية في السوق، وبوجه خاص السلع التي ينشط عليها الطلب في ميدان التجارة الخارجية، وفي مقدمتها الصادرات التي تزاول تأثيراً هاماً على توزيع الاستثمار المحلي في البلدان الصغيرة. هذا إلى أن نشوء الصناعة المحلية كثيراً ما يبدأ في استثمارات المشاريع التي تنتج سلعاً يمكن الاستعاضة بها عن الاستيرادات الأجنبية. أما العامل الثاني الذي يؤثر في مستوى الربحية فهو فروق الأثمان النسبية للمواد الخام وسائر تكاليف عوامل الإنتاج، إذ تعكس هذه الفروق لنا حاصل العلاقات المتبادلة بين العرض والطلب، وبالتالي بين مجمل نفقات العمليات الاستثمارية.
وأخيراً فإن توزيع الاستثمار تقرره مستلزمات عمليات الإنتاج الفنية في أحوال كثيرة. وذلك فيما يتعلق بحاجات مختلف الصناعات لسلع نصف المصنوعة، ومواد الوقود، والمهارات، كما أن درجة تطور المعرفة الفنية هي التي تتحكم في إمكانيات الاستعاضة عن عوامل الإنتاج الباهضة التكاليف بغيرها من العوامل الرخيصة الثمن.
ومن الطبيعي أن تأثير العوامل الثلاثة المشار إليها في تقرير نوع الاستثمار إنما يتوقف أولا على متطلبات كل صناعة إلى المال والمواد الخام والأيدي العاملة، وعلى قابلية استيعابها لزيادة أي من العوامل المذكورة على حساب البقية (دون التضحية بالارباح الجدية).
ومما هو مقطوع به أن الأسعار النسبية للعوامل إنما تلعب دوراً حاسماً في توزيع الموارد الزراعية بالمقارنة مع أثرها في توزيع الاستثمارات في المواد الصناعية الخام ـ بالنظر لكثرة تقلبات أسعار المحاصيل واهميتها في تغير دخل الفلاحين بالتبعية. ولكن يلوح من الجهة الأخرى أن مستلزمات تنظيم عملية الإنتاج وعلاقتها الفنية هي التي تستأثر بالأهمية في ميدان الاستثمار الصناعي، ومن ثم تأتي بعدها فروق الأسعار النسبية من حيث أهميتها في هذا المجال، ولقد ذكرنا من قبل أن استخدام أسلوب الإنتاج الكبير في الصناعات الثقيلة وغيرها يتطلب تعميق استخدام رأس المال بالضرورة، لأن مبررات التكامل الصناعي تقوم على الاستفادة من اقتصاديات وثورات الآلة في انجاز كثير في العمليات الانتاجية على أساس زيادة التخصص في العمل.
وكقاعدة عامة، يتفق رأي جمهور الاقتصاديين اليوم على أن عمق رأس المال المستثمر في صناعات الإنتاج أو الصناعات الرأسمالية (ca pital goods industries) يزيد إلى حد بعيد عن عمق رأس المال المستثمر في صناعات الاستهلاك (consumer goods industries) حيث أن عظم الحاجة إلى استخدام الطاقة الميكانيكية في الإنتاج يستوجب حشد مقادير كبيرة من المعدات وسلع رأس المال في الصناعات الأولى.
ولعل هذا مما تتميز به صناعات الدول المتقدمة اقتصادياً، حيث نجد أن اتساع طاقتها على الإنتاج يأتي بوجه خاص من تكثيف الاستثمار في صناعاتها الثقيلة، بما يترتب على ذلك من القدرة على إنتاج كميات كبيرة من السلع بنفقات قليلة.
قسمة الاستثمار بين صناعات الإنتاج والاستهلاك والقطاعات الأخرى:
من المعلوم أن توزيع الموارد بين ضروب الاستثمار تبعاً لمقتضى شروط الكفاءة الاقتصادية يستدعي قبل كل شيء حالة من التوازن بين مطاليب الجماعة إلى الاستهلاك العاجل وبين مطاليب الاستثمار للآجال الطويلة (حيث تتحصل المفاضلة هنا بين صناعات الإنتاج والاستهلاك) الأمر الذي يستوجب بدوره المفاضلة بين مزايا الاستثمارات حسب انتاجيتها من ناحية، ودرجة افتقار الصناعة أو حاجة المستهلكين إليها من ناحية ثانية، ومبلغ الأهمية الاجتماعية التي تنطوي عليها المنافع والخدمات المنتجة من ناحية ثالثة، وجلي أن هذه الموازنة تحتم على الجماعة التوصل إلى مقياس جماعي للتفضيل السلعي والاستثماري (commodity and investment preference) لكي تتيسر بمقتضاه قسمة الموارد بين أنواع الاستثمارات البلدية التي تتنافس في أهميتها الانتاجية، فضلاً عن تفاوت معدل ربحيتها بالقياس إلى قيمة رأس المال المستثمر فيها.
ومعلوم أيضا أن الدولة قد أضحت تختص في الوقت الحاضر، بعد تطور مفهوم الرفاهية بمعناه الاجتماعي الشامل، بانتاج مجموعة من الخدمات تتمتع بأهمية اجتماعية بالغة، رغم أن انتاجيتها لا يمكن أن تقوم بقيمة تجارية معينة (ذلك لأنها لا يمكن أن تباع وتشترى على أساس تجاري صرف كبقية السلع والخدمات، كما لا يمكن استرداد قيمة استثمارتها التي تستوعب قدراً كبيراً من رأس المال إلا بعد انقضاء فترة من الزمن) وعلى هذا فقد تواضع الاقتصاديون على الإشارة إلى مجموعة المشاريع المنتجة لهذه الخدمات، والتي تتولى الدولة الإنفاق عليها أو التدخل في ادارتها (أو الاكتفاء بالاشراف على اعمالها من بعيد للتثبت من سلامة تصرفاتها).
بضاعات المنافع أو المرافق أو الخدمات العامرة (public utilities) للدلالة على أن الجماعة قد آثرت في إدارة أعمالها تغليب اعتبارات المنفعة على اعتبارات الربحية حيثما يتراى لها أن الاعتبارات الأخيرة قد أخذت تتعارض مع المصلحة العامة.
ولا يستبعد في أحوال كثيرة أن تقوم الدولة بالاستثمار في الصناعات الاستخراجية بما فيها صناعات التعدين واستخراج النفط الخام (لغرض تأمين استغلال الموارد الطبيعية العاطلة وتعزيز منهاج التصنيع، وتأمين إنتاج ما يلزم من المواد الخام) لاستهلاك الصناعات التحويلية وهي الصناعات التي تحوّل المواد الأولية إلى منتجات تامة الصنع أو نصف مصنوعة، وهي تشمل كلاً من صناعات الإنتاج والاستهلاك.
ونرى مما تقدم أن من الضروري قسمة استثمارات التصنيع بين أربعة قطاعات صناعية، هي:
أولاً: صناعات المنافع العامة
وهي تختص في بناء رأس مال اجتماعي مستديم، وتستوعب قدراً جسيماً من الاستثمارات، وتشمل إنشاء وسائل المواصلات (مثل السكك الحديدية والجسور والطرق المرصوفة) وتسهيلات الري والانارة والتعليم والصحة، وهذه كلها تنتج خدمات ضرورية لا يمكن أن تستغني عنها بأية حال الصناعات التحويلية.
ولهذا فأنه يتعين تخصيص جزء لا يستهان به من استثمارات التصنيع لتطوير صناعات المرافق العامة، وتكوين رأس مال اجتماعي بقدر كافٍ لاسناد نشاط كل من الصناعات الاستخراجية والتحويلية في البلاد.
ثانياً: الصناعات الاستخراجية
وهي تمثل كما ذكرنا المرحلة الأولى في الإنتاج الصناعي، ويمكن أن يستفاد منها في أحوال كثيرة لزيادة التصدير ـ لا سيما خلال مراحل التصنيع الأولى، حتى إذا تم تأسيس صناعة محلية أمكن الاستفادة من المواد الخام المنتجة في تغذية الإنتاج المحلي.
ثالثاً: صناعات الإنتاج
وهي تستوعب بدورها قدراً لا يستهان به من رؤوس الأموال وتمتاز بقابليات توسعية هائلة إذا أمكن تعزيز تكاملها الافقي والعمودي، بحيث يتحقق قدر كبير من الارتباط بين عملياتها الاستثمارية وانتاجها الجاري، ويحصل اتصال وثيق يبين عمليات انتاجها التحويلية وما يمكن أن تقوم به من الأعمال الاستخراجية والثقيلة، بما ينشأ عن ذلك من نظام (الإنتاج بالجملة) وإذا جاء تكامل هذه الصناعات الإنتاجية مصحوباً بتنظيم جهاز توزيع منتجاتها فإن هذا سوف يستتبع دمج تنظيمات (الإنتاج الكبير) بجهاز (البيع بالجملة)بحيث ينشأ عن ذلك جهاز صناعي متكامل ليس له نظير إلا في الاقتصاديات الصناعية المتقدمة. والذي يعنينا هنا هو أن حركة التصنيع تتطلب زيادة الاستثمار في صناعات الإنتاج إلى أقصى الحدود المستطاعة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وذلك من اجل استعجال عمليات تكوين رأس المال والنهوض بانتاجية الاقتصاد الوطني بأسرع وقت ممكن، مع مراعات كفاية مطاليب الاستهلاك الضرورية في الوقت ذاته.
رابعاً: صناعة الاستهلاك
أو ما يعرف بالصناعات الخفيفة، وفي مقدمتها صناعة النسيج التي استهلت بها بريطانيا ثورتها الصناعية، وتبعها في ذلك كثير من الدول ـ وتفسير هذه الظاهرة ـ أي استهلال التصنيع بتأسيس صناعة النسيج ـ يمكن أن يرجع إلى سهولة تحصيل إيراد عن الاستثمار فيها بالنظر لتوافر الطلب على المنسوجات في كل سوق محلي، واعتدال متطلبات الصناعة من رأس المال (بالقياس إلى الايدي العاملة).
هذا إلى أن هناك أربعة أسباب أخرى يوردها (شانك) لتبرير هذه الظاهرة (مرونة الطلب على المنسوجات نسبياً، بما يعني أن من الممكن تسويق كمية اكبر منها كلما تيسر تخفيض اسعارها (والمثال الكلاسيكي على ذلك هو ما قامت به اليابان من التوسع في إنتاج الاقمشة الرخيصة الثمن التي استطاعت أن تغزو بها الأسواق العالمية)، هذا إلى أن 1ـ مرونة الطلب على المنسوجات تعد عالية بالقياس إلى الطلب على الضروريات الأخرى، مثل المواد الغذائية، 2ـ توافر المواد الأولية ـ بما فيها القطن والصوف ـ في كل بلد تقريباً 3ـ سهولة نقل المنسوجات إلى الأسواق بتكاليف قليلة (نظراً لخفة وزنها)، 4ـ القدرة على استخدام أعداد كبيرة من الايدي العاملة، والاستفادة من انخفاض الأجور في هذا المجال وسهولة تدريبها على اتقان فنون الإنتاج في هذه الصناعة). ولكن ليس ثابتاً من الجهة الأخرى أن صناعة النسيج هي الصناعة المثلى التي ينبغي استخدامها في منهاج التصنيع بتاسيس صناعة النسيج بالإشارة إلى أن من المستطاع تخفيض تكاليف الإنتاج في هذه الصناعة بدرجة ملموسة، وذلك عن طريق ادخال التحسينات الفنية واستخدام قدر اكبر من الآلات (مثل المغازل) لتوسيع طاقتها الانتاجية فيما بعد، ولكنه يذهب إلى الاعتراف من الناحية الثانية بأن امكانيات خفض تكاليف الإنتاج في صناعة الحديد والفولاذ تماثل إلى حد بعيد امكانياتها في صناعة النسيج، وذلك بالنظر للدور الذي يلعبه الاستحداث والتحسينات الفنية في استعجال زيادة كمية الناتج في كل من الصناعتين دون أن تقابل ذلك زيادة كبيرة في أبواب النفقة (وذلك تبعاً لمفعول قانون تزايد الغلة).
وإذا كان تأسيس صناعات الاستهلاك في البلاد المتخلفة يعد المرحلة الأولى في تصنيعها فإن جمهوراً من المؤرخين الاقتصاديين يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه المرحلة سوف يتلوها نشاط الاستثمار إلى درجة تشجع على تطوير صناعات الإنتاج وبدايتها صناعة الحديد والفولاذ، حيث تستكمل البلاد بذلك المرحلة الثانية، في تطورها، وانه كلما اطرد تقدم حركة التصنيع فيما بعد زادت أهمية صناعات الإنتاج بالقياس إلى الصناعات الأخرى، ومتى ما تحقق ذلك تكون البلاد قد بلغت المرحلة الثالثة في مضمار التطور الصناعي وغدت من الأقطار المتقدمة صناعياً.
أي أن معدل النمو الاقتصادي أو معدل زيادة الإنتاج الجاري) يساوي حاصل ضرب نسبة الادخار (من الدخل الجاري) في معدل انتاجية راس المال.
لأجل تفهم طبيعة الدور الذي يلعبه (التعجيل الاستثماري) في زيادة الدخل (إذا أراد القارئ الإحاطة بصورة وافية بمضمون هذه الاصطلاحات (الكينزية) فإن عليه أن يتفهم شيئاً عن نظرية الدخل والاستخدام التي استمد كينز أهم أقسامها من مالتوس ووكسل وافتاليون) وفيما يلي بعض المراجع التي يمكن الإفادة منها لهذا الغرض.
1. ددلي ديلارد، اقتصاد جون مينارد كينز/ تيبورك طبعة 1998 ويشار بضرورة الابتداء بدراسة هذا الكتاب أولاً.
2. ألفن هانسن، الدليل في اقتصاد كينز/ نيويورك ولندن طبعة 1996.
3. سيمور هاريس، الاقتصاد الجديد/ نيويورك/ طبعة 1997.
4. جي. آر. هيكس (نظرية كينز عن الاستخدام) المجلة الاقتصادية مجلد 1987، ص238-253.
5. الدخل والاستخدام والسياسة العامة، المصدر السابق.
6. جون م. كينزالنظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود.
7. آل آر كلاين، الثورة الكينزية.
8. تي. آر. مالثوس ـ مبادئ الاقتصاد السياسي ـ راجع القسم العاشر في الفصل الأول في المجلد الثاني.
9. نت وكسل، محاضرات في الاقتصاد السياسي راجع قسم النقود في المجلد الثاني بصورة خاصة.
من المعروف أن تحليل وكسل عن الاستثمار يعد بحق الأساس الذي بنى عليه كينز نظريته العامة.
إن مبدأ مكرر الاستثمار يعترف ضمناً بأن مصادر تكوين الدخل إنما تُستمد من الإنفاق على كل من الاستهلاك وأغراض الاستثمار(باستبعاد عامل اكتناز الدخل طبعاًً) ولكنه يؤكد على أهمية الاستثمار في تنمية الدخل، بما يترتب على نمو الدخل من زيادة في الطلب على سلع وخدمات الاستهلاك والمنتجات الأخرى المصنوعة محلياً، وأن هذا مفاده تقوية الحافز إلى زيادة الاستثمار بالتبعية ويفيد مبدأ التعجيل أن زيادة الدخل ستؤدي بدورها إلى زيادة الاستثمار، وأن هذا سوف يتحقق بغض النظر عن الكيفية التي يتوزع بها إنفاق الدخل بين العمليات الاستثمارية.
ونتيجة لتداخل وتفاعل تأثيرات مكرر الاستثمار وعامل التعجيل، نرى أن الزيادة التي تتحصل أولاً في ميدان الاستثمار ـ وهي تتمثل في ظاهرة توسيع المال ثم تعميقه كما أوضحناـ لابد وأن تفضي إلى رفع مستوى الدخل العام، وكذلك نسبة ما يدخر منه، وأن هذه العلاقة من شانها أن تؤدي بنفس الكيفية إلى زيادة الاستثمار زيادات متتالية بين مرحلة وأخرى، وهكذا دواليك.
ويرجع ارتفاع الدخل في الواقع إلى مفعول الأثر الاستثماري، فعندما يزداد التكرار الانفاقي في البلاد نتيجة ارتفاع الدخل النقدي في أرجاء الصناعة(وخاصة في صناعات التصدير) فانه من المحتمل جداً أن يقبل المستثمرون على زيادة حجم استثماراتهم أو القيام بعمليات استثمارية جديدة للإفادة من الظروف السائدة،ومما لاشك فيه أن زيادة حجم الطلب تعتبر عاملاً رئيسياً يؤثر في معدل الاستثمار وحجمه، ومن المتوقع أن تغري زيادة التكرار الانفاقي (وهي توازي حجم الطلب) أصحاب رؤوس الأموال في القيام ببعض العمليات الاستثمارية التي يترتب عليها زيادة الدخول الحقيقية
والجدير بالذكر أن التكرار الإنفاقي على الاستثمار لا يتوقف على حجم الإنفاق الحكومي في كل مرحلة، وإنما يتأثر به تأثراً كبيراً عند الشروع بتنفيذ منهاج التصنيع حيث يتخذ الإنفاق الحكومي آنذاك صفة الاستثمار(المستقل) ويكون من الأهمية بمكان، الأمر الذي يغري المشاريع الخاصة على القيام باستثمارات جديدة تكون ربحيتها مشتقة من عمليات الاستثمار الحكومي،سواء جاء ذلك من تجهيز المشاريع الحكومية بالسلع والمواد الإنشائية والخدمات، أو بإنتاج قدر اكبر من سلع وخدمات الاستهلاك لسد الزيادة الحاصلة في الطلب عليها.إذن فتنفيذ هذا المنهاج يشجع المشاريع المحلية كلها على زيادة عملياتها الاستثمارية، لأنه كلما تيسر خلق دخل جديد في الاستثمارات التي تمولها الحكومة، كلما أمكن مواصلة الاستثمار بسهولة اكبر في المراحل المقبلة، والتعويل بدرجة اكبر على مساهمة المشاريع الخاصة بجانب الحكومة في كل من مجالي التمويل وتنظيم استغلال الموارد العاطلة،وهكذا يتسع نطاق تثمير الادخارات ويزداد تكثيف استثمار رؤوس الأموال في العمليات الإنتاجية، بما يترتب على ذلك استحثاث نمو القوة الشرائية،واتساع نطاق الاستخدام، ونشاط عمليات تكوين رأس المال بالتبعية، كل هذا يتوقف على إعداد وتطبيق منهاج ملائم للتصنيع، تعطى الأهمية فيه إلى زيادة حجم الإنفاق الحكومي على الاستثمار،دون التقيد كثيراً في المراحل الأولى باعتبارات الربحية(التي يتوقف عليها في المعتاد أمر استثمار الأموال الخاصة، بالإضافة إلى اعتداد الأخيرة باعتبارات توافر قوة شرائية في الأسواق لتصريف منتجاتها (.
ونرى مما تقدم أن منهاج التصنيع يستطيع أن يولد قوى توسعية كبرى تعمل على تبديل الأوضاع الاقتصادية القائمة، فهو يقوض(على درجات متفاوتة من الشدة)العلاقات والمؤسسات القديمة التي لم تعد تتلائم مع مقتضيات التقدم الاقتصادي، ويخلف تنظيمات وعلاقات ومصالح جديدة تهتم بأمر تنمية الإنتاج بالنظر لما تحصل عليه من المنافع والأرباح، وتصيبه من المغانم في الميادين التجارية والاقتصادية والسياسية كما أن الشئ الكثير يتوقف على عنصر المبادأة، فالمبادأة في القيام بالاستثمار(ربما تتخذه من أشكال توسيع الاستخدام الأفقي لرأس المال في بادئ الأمر، وتتطور إليه من تكثيف الاستثمار، تحظى بأهمية كبرى لأنه من المسلم به أن العامل الديناميكي في الجهاز الاقتصادي هو حجم الاستثمار ومعدل تغيره، وليس تغير الإنفاق الاستهلاكي الذي هو محصلة لقوى الاستثمارات والتغيرات التي تترتب عليه.
وتتجلى أهمية عامل المبادأة التي يتميز بها أول منهاج للتصنيع في إعادة توزيع عوامل الإنتاج، لاسيما تخفيف ضغط كثافة السكان في القرى والأرياف وتيسير القوة العاملة لمشروعات الاستثمار، واصلاح وسائل المواصلات وإنشاء طرق جديدة، وتنظيم عمليات استغلال الموارد الطبيعية(بما فيها المياه لأغراض الري وتوليد الكهرباء واستغلال الثروة المعدنية بما في ذلك النفط)ونشر المعرفة الفنية وما إلى ذلك من خطوات منهاج التنمية التي يمكن اعتبارها بمثابة شرارة تستخدم لإشعال نار الفعالية الاقتصادية، حتى إذا ما تم هذا سهل بعد ذلك استعجال تكوين رأس المال وزيادة الدخل.
توزيع استثمارات رأس المال:
من الواجب التنويه هنا بأن تنمية الدخل لا تتوقف على حدوث الاستثمار فحسب، وإنما على معدل سرعة زيادة الاستثمار الذي هو حاصل متوسط الإنتاجية ونسبة الادخار من الدخل الوطني.
هذا إلى أن زيادة الاستثمار تتأثر إلى حد بعيد بشكل رأس المال المستخدم في الصناعة(أي بشكل قسمة الاستثمار بين صناعات الإنتاج والاستهلاك) لابد وأن تؤثر بدورها في رفع كلفة العمليات الاستثمارية التي تضطلع بها المشاريع.
1. شكل الاستثمار في الاقتصاديات الصناعية:
يستدل في المعلومات التي نشرتها البحاثة سيمون كزنت أن البنيان الصناعي في الولايات المتحدة يقوم على ثلاثة أركان رئيسية هي:
المباني والآلات وموجودات المواد الخام ويتضح من هذه المعلومات أن مجموع قيمة رأس المال في صناعات الإنتاج الأمريكية خلال سنة 1948 كان يبلغ(64) بليون دولار في المباني الصناعية والعقارات،و(41)بليون دولار في المعامل والمعدات الصناعية و(11)بليون دولار في موجودات المواد الخام وأدوات الإنتاج (بيو كانان المصدر السابق) راجع بصورة خاصة الإحصاءات التي يتضمنها الفصل الثاني عن توزيع المال المستثمر في الصناعات المختلفة.
للاستزادة من المعلومات حول الموضوع راجع المصادر التالية.
1ـ سيمون كزنت: إلى الدخل الوطني وتكوين رأس المال/ المكتب الوطني للابحاث الاقتصادية / نيويورك.
2ـ الناتج الوطني منذ سنة 1869 نيويورك.
3ـ الدخل الوطني والبنيان الصناعي/ ملحق نشرة ايكو نومتريكا.
4ـ واسلي ليونيف. بنيان الاقتصاد الامريكي ـ كمبريدج ـ جامعة هارفارد.
5ـ كولين كلارك، شروط التقدم الاقتصادي/ لندن.
يعد المؤلف كلارك مرجعاً جيداً في التحليل الاحصائي للتطور الاقتصادي.
ولو حولنا هذه الأرقام إلى نسب لحصلنا على التوزيع الآتي: 50% من مجموع رأس المال مستثمر في مباني صناعية وعقارات و30% في معدات وسلع إنتاج ومعظم البقية مستثمر في منشآت الصناعة الكهربائية، أما جملة المال المستثمر في السكك الحديدية ومنشآت الصناعة الكهربائية فقد بلغت نسبة (45%) في المجموع.
وعلى العكس مما هي الحال في البلدان المتقدمة، نجد أن الشطر الأكبر من رأس المال المحلي في البلاد المتخلفة يستثمر في صناعات الاستهلاك ولاسيما في الزراعة التي يعرف عنها أنها تفتقر إلى التنظيم وتسهيلات الري والمكائن، وان تنميتها تتطلب تحسين كل من أساليب الإنتاج ونوع المحاصيل، بالإضافة إلى امور أخرى، ومما لا شك فيه أن درجة استغلال الموارد الطبيعية تؤثر في شكل استثمار رأس المال في أي قطاع اقتصادي، وكذلك في توزيع الاستثمار في الاقتصادات الوطنية على اختلاف ما تحظى به من التطور. وعلى ضوء هذه الحقيقة نلمس أن الاستخدام الأفقي لرأس المال في صناعات الإنتاج لا يمكن أن يؤدي إلى تركيز الاستثمار في أية صناعات معينة (وهذا ملحوظ بصورة خاصة في البلاد التي تحتل الصناعات الخفيفة الصدارة في اقتصادها، وعلى العكس من ذلك، نجد أن الاستثمار في الصناعات الثقيلة يستلزم تكثيف استخدام سلع رأس المال في كثير من العمليات الانتاجية، وذلك بالنظر لسعة نطاق الصناعة (وهذه السعة توجهها الاعتبارات الفنية للانتاج المتكامل، وعظم الحاجة إلى الآلات المختزلة للوقت والتكاليف ولا سيما طاقة العمل وما إلى ذلك من مبررات الإنتاج الكبير.
ولونظرنا إلى بنيان الصناعة في الولايات المتحدة خلال السنوات 1924 ـ 1943 فأننا نرى أن رأس المال المستثمر في صناعاتها التحويلية قد توزع على النحو الآتي: 33% في صناعة الحديد والفولاذ و11% في الصناعات الزراعية و8% في صناعة النسيج و7% في صناعة الآلات وسلع المنتجين و6% في كل من صناعتي الورق والمنتجات الكيماوية.
بعض العوامل المؤثرة في توزيع الاستثمار
ذكرنا أن درجة التطور التي بلغها الاقتصاد ـ أو بالأحرى درجة نماء الجهاز الانتاجي ـ تتحكم إلى حد ما في توزيع الاستثمار بين القطاعات المختلفة وذلك في نطاق تفضيل المستثمرين لعامل ربحية المشاريع التي يستطيعون تمويلها. وإذا تحققت اعتبارات الربحية صار من المتوقع ازدياد الاستثمار في السلع التي تتمتع بأهمية نسبية في السوق، وبوجه خاص السلع التي ينشط عليها الطلب في ميدان التجارة الخارجية، وفي مقدمتها الصادرات التي تزاول تأثيراً هاماً على توزيع الاستثمار المحلي في البلدان الصغيرة. هذا إلى أن نشوء الصناعة المحلية كثيراً ما يبدأ في استثمارات المشاريع التي تنتج سلعاً يمكن الاستعاضة بها عن الاستيرادات الأجنبية. أما العامل الثاني الذي يؤثر في مستوى الربحية فهو فروق الأثمان النسبية للمواد الخام وسائر تكاليف عوامل الإنتاج، إذ تعكس هذه الفروق لنا حاصل العلاقات المتبادلة بين العرض والطلب، وبالتالي بين مجمل نفقات العمليات الاستثمارية.
وأخيراً فإن توزيع الاستثمار تقرره مستلزمات عمليات الإنتاج الفنية في أحوال كثيرة. وذلك فيما يتعلق بحاجات مختلف الصناعات لسلع نصف المصنوعة، ومواد الوقود، والمهارات، كما أن درجة تطور المعرفة الفنية هي التي تتحكم في إمكانيات الاستعاضة عن عوامل الإنتاج الباهضة التكاليف بغيرها من العوامل الرخيصة الثمن.
ومن الطبيعي أن تأثير العوامل الثلاثة المشار إليها في تقرير نوع الاستثمار إنما يتوقف أولا على متطلبات كل صناعة إلى المال والمواد الخام والأيدي العاملة، وعلى قابلية استيعابها لزيادة أي من العوامل المذكورة على حساب البقية (دون التضحية بالارباح الجدية).
ومما هو مقطوع به أن الأسعار النسبية للعوامل إنما تلعب دوراً حاسماً في توزيع الموارد الزراعية بالمقارنة مع أثرها في توزيع الاستثمارات في المواد الصناعية الخام ـ بالنظر لكثرة تقلبات أسعار المحاصيل واهميتها في تغير دخل الفلاحين بالتبعية. ولكن يلوح من الجهة الأخرى أن مستلزمات تنظيم عملية الإنتاج وعلاقتها الفنية هي التي تستأثر بالأهمية في ميدان الاستثمار الصناعي، ومن ثم تأتي بعدها فروق الأسعار النسبية من حيث أهميتها في هذا المجال، ولقد ذكرنا من قبل أن استخدام أسلوب الإنتاج الكبير في الصناعات الثقيلة وغيرها يتطلب تعميق استخدام رأس المال بالضرورة، لأن مبررات التكامل الصناعي تقوم على الاستفادة من اقتصاديات وثورات الآلة في انجاز كثير في العمليات الانتاجية على أساس زيادة التخصص في العمل.
وكقاعدة عامة، يتفق رأي جمهور الاقتصاديين اليوم على أن عمق رأس المال المستثمر في صناعات الإنتاج أو الصناعات الرأسمالية (ca pital goods industries) يزيد إلى حد بعيد عن عمق رأس المال المستثمر في صناعات الاستهلاك (consumer goods industries) حيث أن عظم الحاجة إلى استخدام الطاقة الميكانيكية في الإنتاج يستوجب حشد مقادير كبيرة من المعدات وسلع رأس المال في الصناعات الأولى.
ولعل هذا مما تتميز به صناعات الدول المتقدمة اقتصادياً، حيث نجد أن اتساع طاقتها على الإنتاج يأتي بوجه خاص من تكثيف الاستثمار في صناعاتها الثقيلة، بما يترتب على ذلك من القدرة على إنتاج كميات كبيرة من السلع بنفقات قليلة.
قسمة الاستثمار بين صناعات الإنتاج والاستهلاك والقطاعات الأخرى:
من المعلوم أن توزيع الموارد بين ضروب الاستثمار تبعاً لمقتضى شروط الكفاءة الاقتصادية يستدعي قبل كل شيء حالة من التوازن بين مطاليب الجماعة إلى الاستهلاك العاجل وبين مطاليب الاستثمار للآجال الطويلة (حيث تتحصل المفاضلة هنا بين صناعات الإنتاج والاستهلاك) الأمر الذي يستوجب بدوره المفاضلة بين مزايا الاستثمارات حسب انتاجيتها من ناحية، ودرجة افتقار الصناعة أو حاجة المستهلكين إليها من ناحية ثانية، ومبلغ الأهمية الاجتماعية التي تنطوي عليها المنافع والخدمات المنتجة من ناحية ثالثة، وجلي أن هذه الموازنة تحتم على الجماعة التوصل إلى مقياس جماعي للتفضيل السلعي والاستثماري (commodity and investment preference) لكي تتيسر بمقتضاه قسمة الموارد بين أنواع الاستثمارات البلدية التي تتنافس في أهميتها الانتاجية، فضلاً عن تفاوت معدل ربحيتها بالقياس إلى قيمة رأس المال المستثمر فيها.
ومعلوم أيضا أن الدولة قد أضحت تختص في الوقت الحاضر، بعد تطور مفهوم الرفاهية بمعناه الاجتماعي الشامل، بانتاج مجموعة من الخدمات تتمتع بأهمية اجتماعية بالغة، رغم أن انتاجيتها لا يمكن أن تقوم بقيمة تجارية معينة (ذلك لأنها لا يمكن أن تباع وتشترى على أساس تجاري صرف كبقية السلع والخدمات، كما لا يمكن استرداد قيمة استثمارتها التي تستوعب قدراً كبيراً من رأس المال إلا بعد انقضاء فترة من الزمن) وعلى هذا فقد تواضع الاقتصاديون على الإشارة إلى مجموعة المشاريع المنتجة لهذه الخدمات، والتي تتولى الدولة الإنفاق عليها أو التدخل في ادارتها (أو الاكتفاء بالاشراف على اعمالها من بعيد للتثبت من سلامة تصرفاتها).
بضاعات المنافع أو المرافق أو الخدمات العامرة (public utilities) للدلالة على أن الجماعة قد آثرت في إدارة أعمالها تغليب اعتبارات المنفعة على اعتبارات الربحية حيثما يتراى لها أن الاعتبارات الأخيرة قد أخذت تتعارض مع المصلحة العامة.
ولا يستبعد في أحوال كثيرة أن تقوم الدولة بالاستثمار في الصناعات الاستخراجية بما فيها صناعات التعدين واستخراج النفط الخام (لغرض تأمين استغلال الموارد الطبيعية العاطلة وتعزيز منهاج التصنيع، وتأمين إنتاج ما يلزم من المواد الخام) لاستهلاك الصناعات التحويلية وهي الصناعات التي تحوّل المواد الأولية إلى منتجات تامة الصنع أو نصف مصنوعة، وهي تشمل كلاً من صناعات الإنتاج والاستهلاك.
ونرى مما تقدم أن من الضروري قسمة استثمارات التصنيع بين أربعة قطاعات صناعية، هي:
أولاً: صناعات المنافع العامة
وهي تختص في بناء رأس مال اجتماعي مستديم، وتستوعب قدراً جسيماً من الاستثمارات، وتشمل إنشاء وسائل المواصلات (مثل السكك الحديدية والجسور والطرق المرصوفة) وتسهيلات الري والانارة والتعليم والصحة، وهذه كلها تنتج خدمات ضرورية لا يمكن أن تستغني عنها بأية حال الصناعات التحويلية.
ولهذا فأنه يتعين تخصيص جزء لا يستهان به من استثمارات التصنيع لتطوير صناعات المرافق العامة، وتكوين رأس مال اجتماعي بقدر كافٍ لاسناد نشاط كل من الصناعات الاستخراجية والتحويلية في البلاد.
ثانياً: الصناعات الاستخراجية
وهي تمثل كما ذكرنا المرحلة الأولى في الإنتاج الصناعي، ويمكن أن يستفاد منها في أحوال كثيرة لزيادة التصدير ـ لا سيما خلال مراحل التصنيع الأولى، حتى إذا تم تأسيس صناعة محلية أمكن الاستفادة من المواد الخام المنتجة في تغذية الإنتاج المحلي.
ثالثاً: صناعات الإنتاج
وهي تستوعب بدورها قدراً لا يستهان به من رؤوس الأموال وتمتاز بقابليات توسعية هائلة إذا أمكن تعزيز تكاملها الافقي والعمودي، بحيث يتحقق قدر كبير من الارتباط بين عملياتها الاستثمارية وانتاجها الجاري، ويحصل اتصال وثيق يبين عمليات انتاجها التحويلية وما يمكن أن تقوم به من الأعمال الاستخراجية والثقيلة، بما ينشأ عن ذلك من نظام (الإنتاج بالجملة) وإذا جاء تكامل هذه الصناعات الإنتاجية مصحوباً بتنظيم جهاز توزيع منتجاتها فإن هذا سوف يستتبع دمج تنظيمات (الإنتاج الكبير) بجهاز (البيع بالجملة)بحيث ينشأ عن ذلك جهاز صناعي متكامل ليس له نظير إلا في الاقتصاديات الصناعية المتقدمة. والذي يعنينا هنا هو أن حركة التصنيع تتطلب زيادة الاستثمار في صناعات الإنتاج إلى أقصى الحدود المستطاعة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وذلك من اجل استعجال عمليات تكوين رأس المال والنهوض بانتاجية الاقتصاد الوطني بأسرع وقت ممكن، مع مراعات كفاية مطاليب الاستهلاك الضرورية في الوقت ذاته.
رابعاً: صناعة الاستهلاك
أو ما يعرف بالصناعات الخفيفة، وفي مقدمتها صناعة النسيج التي استهلت بها بريطانيا ثورتها الصناعية، وتبعها في ذلك كثير من الدول ـ وتفسير هذه الظاهرة ـ أي استهلال التصنيع بتأسيس صناعة النسيج ـ يمكن أن يرجع إلى سهولة تحصيل إيراد عن الاستثمار فيها بالنظر لتوافر الطلب على المنسوجات في كل سوق محلي، واعتدال متطلبات الصناعة من رأس المال (بالقياس إلى الايدي العاملة).
هذا إلى أن هناك أربعة أسباب أخرى يوردها (شانك) لتبرير هذه الظاهرة (مرونة الطلب على المنسوجات نسبياً، بما يعني أن من الممكن تسويق كمية اكبر منها كلما تيسر تخفيض اسعارها (والمثال الكلاسيكي على ذلك هو ما قامت به اليابان من التوسع في إنتاج الاقمشة الرخيصة الثمن التي استطاعت أن تغزو بها الأسواق العالمية)، هذا إلى أن 1ـ مرونة الطلب على المنسوجات تعد عالية بالقياس إلى الطلب على الضروريات الأخرى، مثل المواد الغذائية، 2ـ توافر المواد الأولية ـ بما فيها القطن والصوف ـ في كل بلد تقريباً 3ـ سهولة نقل المنسوجات إلى الأسواق بتكاليف قليلة (نظراً لخفة وزنها)، 4ـ القدرة على استخدام أعداد كبيرة من الايدي العاملة، والاستفادة من انخفاض الأجور في هذا المجال وسهولة تدريبها على اتقان فنون الإنتاج في هذه الصناعة). ولكن ليس ثابتاً من الجهة الأخرى أن صناعة النسيج هي الصناعة المثلى التي ينبغي استخدامها في منهاج التصنيع بتاسيس صناعة النسيج بالإشارة إلى أن من المستطاع تخفيض تكاليف الإنتاج في هذه الصناعة بدرجة ملموسة، وذلك عن طريق ادخال التحسينات الفنية واستخدام قدر اكبر من الآلات (مثل المغازل) لتوسيع طاقتها الانتاجية فيما بعد، ولكنه يذهب إلى الاعتراف من الناحية الثانية بأن امكانيات خفض تكاليف الإنتاج في صناعة الحديد والفولاذ تماثل إلى حد بعيد امكانياتها في صناعة النسيج، وذلك بالنظر للدور الذي يلعبه الاستحداث والتحسينات الفنية في استعجال زيادة كمية الناتج في كل من الصناعتين دون أن تقابل ذلك زيادة كبيرة في أبواب النفقة (وذلك تبعاً لمفعول قانون تزايد الغلة).
وإذا كان تأسيس صناعات الاستهلاك في البلاد المتخلفة يعد المرحلة الأولى في تصنيعها فإن جمهوراً من المؤرخين الاقتصاديين يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه المرحلة سوف يتلوها نشاط الاستثمار إلى درجة تشجع على تطوير صناعات الإنتاج وبدايتها صناعة الحديد والفولاذ، حيث تستكمل البلاد بذلك المرحلة الثانية، في تطورها، وانه كلما اطرد تقدم حركة التصنيع فيما بعد زادت أهمية صناعات الإنتاج بالقياس إلى الصناعات الأخرى، ومتى ما تحقق ذلك تكون البلاد قد بلغت المرحلة الثالثة في مضمار التطور الصناعي وغدت من الأقطار المتقدمة صناعياً.
أي أن معدل النمو الاقتصادي أو معدل زيادة الإنتاج الجاري) يساوي حاصل ضرب نسبة الادخار (من الدخل الجاري) في معدل انتاجية راس المال.
المصدر: http://raselaioun.3oloum.org/t298-topic