ما هي المتعة وماهي السعادة؟
المتعة عبارة عن شعور إيجابي ناتج عن إفراز هرمون الدوبامين في الجسم. عملية إفراز هذا الهرمون مرتبطة مع نظام المكافأة و العقاب الدماغي. الدماغ يتواصل مع أعضاء الجسم من خلال طريقتين. واحدة سريعة جداً (السيالة العصبية) و لها تأثير سريع جداً لكن لا يستمر أثره طويلاً و الطريقة الثانية هي من خلال إفراز الهرمونات و التي يكون تأثيرها ذو فعالية أطول لكن تأخذ بعض الوقت لكي تتفعل في الجسم.
سابقاً كان على أجدادنا العمل طوال اليوم في سبيل أن يحصلوا على وجبتهم اليومية، لكن في حال وجد أحدهم مصدراً غذائياً ذات سعرات حرارية عالية (العسل مثلاً) فهذا يعني أنه لن يحتاج أن يعمل طوال الوقت لتأمين حاجته الغذائية في ذاك اليوم. تأمين الحاجة الغذائية دون الحاجة للعمل طوال اليوم هو أمر محبذ جداً و يعزز فرص صاحبه على البقاء. لهذا نجد أن الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية لها طعم لذيذ و الأطعمة المضرة (سمية) لها طعم غير جيد.
في حالة المأكولات اللذيذة يقوم الدماغ بربطها مع شعور إيجابي مفاده (هذا العمل جيد كرره). عملية الربط هذه تحدث عن طريق إفراز توقيع هرموني مرتبط مع الفعل. كلما وجد أجدادنا العسل مثلاً يتذكرون أنه لذيذ و طعمه طيب ليس لأن مركب السكر له طعم سحري و إنما لأن مركب السكر يقدم الطاقة للجسم بشكل فعال و لأن الدماغ ربط هذا الفعل الإجابي عن طريق إفراز هرموني إيجابي (دوبامين).
هذا يعني أن الأفعال التي تحقق فائدة سريعة للجسم إن كانت على شكل جرعة من الطاقة أو نشوة جنسية فإن الجهاز العصبي يكافئ نفسه من خلال افراز هرمون الدوبامين.
في المقابل وكما أن الجهاز العصبي يكافئنا على الأعمال الجيدة يقوم بمعاقبتنا على الأعمال المضرة (حسب تقديره).
مثلاً، إذا قمنا بعمل غير مفيد لبقائنا مثل إلتهام أطعمة سمّية أو فاسدة يقوم الدماغ بمعاقبتنا و ربط هذا الفعل مع توقيع هرموني و إجراء سلبي (ألم) لكي لا نكرره مرة أخرى.
عندما تأكل مأكولات سامة يقوم الدماغ عن طريق حاسة الذوق و الشم باستشعار المواد السامة و إطلاق سيالة عصبية مفادها أنك تلتهم مادة غير مقبولة للجسم. أيضاً يقوم الجهاز العصبي بأخذ مقود القيادة و يتخذ إجراءات احترازية في إجبار الجهاز الهضمي على إخراج ما تم التهامه عن طريق فعل لا إرادي نسمية “التقيؤ”. توجد إجراءات أخرى يقوم بها الدماغ مثل إفراز الأدرنالين و ذلك نتيجة اعتقاده أنك تتعرض للخطر لكن لن أدخل بكل هذه التفاصيل في هذا المقال.
مثال آخر:
عندما تُرضع الأم رضيعتها يقوم الدماغ بإفراز هرمون الأوكسيتوسن (هرمون الترابط الاجتماعي و الحب) لربط العملية بشكل إيجابي بين الأم و ابنتها و أيضاً يفرز بعض الدوبامين لكي لا تكون عملية الإرضاع مؤلمة دون متعة للأم فيموت الأطفال من الجوع.
ملاحظة: قد يبدو من طريقة طرحي أن الدماغ يقرر أن يفرز هذه الهرمونات لأنه على دراية بما يجري في العالم الخارجي أو أنه مصمم للقيام بهذه الإجراءات إلا أن الموضوع يتطلب فهم نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي و ربط آليات التطور و كيف ممكن أن تنتج عنها هذه الأنظمة التي تتواصل فيما بينها عبر الرسائل الهرمونية.
إفراز الدوبامين من أكثر الرسائل الدماغية فعالية و أقدمها حيث أنها موجودة لدى جميع الأحياء. الألم في المقابل هو رسالة إنذار أن الجسم يتعرض إلى أذىً و نجد أن آليات الشعور بالألم لا يمكن تجاوزها بشكل طبيعي لأنها بمثابة منبه أو جهاز إنذار يجب أن يستمر في إرسال الرسالة حتى يتم معالجة المشكلة. الألم جهاز إنذار لا يمكن تجاوزه بشكل طبيعي.
المزيد من الدوبامين (الإدمان على المتعة):
ضمن تجربة تم وضع فأر مختبر في قفص و تم وصل مجسات كهربائية داخل دماغه في منطقة nucleus incumbent و هي المنطقة المسؤولة عن تنظيم إفرازات الدوبامين في الجسم (قسم المكافأة). تم وصل المجسات الكهربائية مع ساعد موجود داخل القفص كلما تم ضغطه يرسل إشارة كهربائية للدماغ و يحفز قسم المكافأة على إفراز الدوبامين.
الفأر اكتشف الساعد و بدأ يضغط عليه باستمرار. مع الوقت توقف الفأر عن فعل أي شيئ سوى الضغط على الساعد و دخل في حالة إدمان. الشعور بالمتعة شعور أقوى من كل الغرائز الأخرى و المثير للاهتمام أن الفأر مات بعد عدة أيام بسبب الجوع و العطش إذ أنه اختار عدم التوقف عن ضغط الساعد مقابل جرعات الدوبامين.
هذه التجربة توضح مدى تأثير الدوبامين على الجسم و منها أود ربط عدم قدرة الذكر على الممارسة الجنسية لأكثر من مرة بشكل متتالي. الذكر يفرز كميات كبيرة جداً من الدوبامين أثناء الوصول لمرحلة القذف (الذروة الجنسية) و لهذا نجد أن ذكر الإنسان تطور بحيث لا يمكن أن يمارس الجنس بشكل متكرر كآلية لحمايته من الاستمرار في العملية الجنسية حتى الموت. أيضاً هذا مثال جيد لتفسير لماذا الكثير من مدمني المخدرات يصلون لمراحل خطيرة و مع ذلك لا يستطيعون التوقف دون مساعدة طبية. (المخدرات عبارة عن محفز دوبامين)
الإدمان هي حالة دماغية مرتبطة بحاجة الجسم إلى القيام بفعل ما لتحفيز إفراز الدوبامين. توجد مواد محفزة لإفراز الدوبامين منها النيكوتين و الكحول و غيرها (الهيروين و الكوكايين). في حالة الإدمان يتأقلم الجسد مع مستويات الدوبامين المفرزة و ترتفع عتبة الحساسية للدوبامين فيتطلب الجهاز العصبي كميات أكبر من المحفذ فيشعر المدمنون أنهم بحاجة جرعات أكبر.
لعبة Candy Crush لها سيط واسع بين الناس و هذا لأنها لعبة تعتمد على إفراز الدوبامين. اللعبة مبرمجة بطريقة تكون صعوبة المراحل فيها موزعة بشكل عشوائي مع اعتبار وجود كمية لابأس بها من المراحل السهلة جداً. اللاعب يبدأ اللعبة و كلما قام بفعل جيد يجد على الشاشة عبارات ذات طابع إيجابي (positive reinforcement).
مع الوقت تصبح هذه العبارات مرتبطة بإفرازات صغيرة من الدوبامين. اللاعب يدمن على هذه الإفرازات إلى أن يصل إلى مرحلة صعبة فيجد صعوبة في الحصول على الجرعات المعتادة. فجأة تنتهي اللعبة و تقول لللاعب أن يعود بعد مدة زمنية محددة أو دفع مبلغ مالي للاستمرار في افراز الدوبامين.
إعطاء الجرعات من الدوبامين ثم إيقافها فجأة يسبب حالة من الإدمان لدى المستخدم لأنه لم يتوقف بشكل طوعي و إنما تم أخذ جرعاته منه بشكل قسري.
مثال أخير على الإدمان الدوباميني
الفيس بوك يعتمد على نفس الآلية. كل ضغطة إعجاب like تسبب إفرازاً ضغيراً من الدوبامين بالإضافة للعديد من العوامل الأخرى المتعلقة بحاجاتنا إلى التواصل الاجتماعي (أوكسيتوسن).
أنت تتصفح الفيس بوك كل يوم لأنك مدمن على الدوبامين.
أتمنى أن يكون أصبح واضحاً أن المتعة عبارة عن حالة دماغية لها مؤثرات فيزيولوجية و لا يمكن أن تسمتر طوال الوقت. يختلف معدل إفراز الدوبامين بين الأشخاص لذلك قد نجد الشعور بالمتعة يتفاوت بين الأشخاص بناءً على الأعمال التي يقومون بها. المتعة محفز رئيسيّ للقيام بالعديد من الأعمال اليومية و لكن مع الوقت تنخفض عتبة الاستشعار بالدوبامين فنشعر بالضجر و الملل و نبحث عن محفزات جديدة و هكذا.
الضغط النفسي:
تخيل معي الإنسان القديم يمارس حياته الطبيعية في السافانا الإفريقية. هذا الإنسان يعيش بحالة تأهب دائمة لتفادي الحيوانات المفترسة إذ أن أي خطئ قد يعني افتراسه من قبل أحد الحيوانات الجائعة.
حالة الحذر الدائم هذه، مهمة جداً في تطور الإنسان إذ أنها تشكل آلية دفاعية ساعدته على البقاء. اليقظة المستمرة مهمة في رصد أي تهديد أو خطر قد يكون محدق. وفي حال وُجد هذا الخطر فعلاً يجد الإنسان نفسه أمام خيارين. إما الهرب أو الهجوم الدفاعي و في كلا الحالتي يجد الجسم نفسه بحاجة جرعات كبيرة من الطاقة وبشكل سريع شبيهة بما نشاهده في أفلام الخيال (توربو بووست). في هذه الحالة يقوم الجسم فعلاً بخطوات استثنائية في استقدام جرعات كبيرة من الطاقة لاستخدامها في الدفاع عن نفسه.
في حالة الخطر يتعامل الدماغ مع كل ماهو مجهول على أنه ظرف “خطر” على أساس قاعدة Better safe than sorry و يرسل برسائل هرمونية مستعجلة إلى الغدة الكظرية عن طريق افراز هرمون اسمه ACTH. بمجرد ارتفاع نسبة هذا الهرمون في الدم يعرف فريق الغدة الكظرية أن عليهم العمل بنشاط أكثر لأن الجسم بحاجة لحرق كميات كبيرة من السكر. يبدأ فريق الغدة الكظرية فوراً بانتاج هرمون أسمه كورتيزول و هو مسؤؤل بشكل أساسي على استقلاب النشويات المخزنة في الجسم إلى سكريات (وقود) لكي تستطيع خلايا الجسم من حرق السكر و القيام بجميع الأعمال الموكلة إليها من قبل الدماغ. نعم هذه الألية لها فوائد بقائية كبيرة وهي سبب وجودنا اليوم ولكن….
الضغط النفسي الذي نشعر به اليوم بشكل مستمر هو نتيجة لهذه الآلية لكن ضمن سياق بيئي مختلف. نحن اليوم لا نعاني من خطر الإفتراس من حيوان جائع أو خطر التعرض لظواهر طبيعية لا نعرف تفسيرها. لكننا نعاني من الديون و الالتزامات المادية و مصاعب الحياة بشكل عام.
نتذكر أننا لم ندفع قسط الهاتف أو اننا لم نسدد فاتورة الكهرباء. أو نسينا واجب المدرسة. نحن نعيش ضمن هيكلية اجتماعية تجعلنا في حالة تأهب دائمة. نحن في حالة هروب من الفاتورات المفترسة بشكل مستمر. هذه الحالة من الضغط النفسي الدائم و حالة الرعب المتواترة تٌدخل الجسم في دائرة سلبية مغلقة يكون لها تأثيرات تزيد من الحالة سوءاً و لهذا أغلبنا تجد نفسها عاجزة عن ايجاد الحلول للخروج من هذه الدوامة النفسية.
نحن في حالة “القتال أو الهروب” بشكل مستمر دون أي فائدة حقيقية. صحيح أن المكانيكية الني شرحتها كانت مهمة جداً في بقائنا إلى أنها أصبحت تشكل لنا عبئ و ضعط نفسي كبير.
نعم أنت بحالة ضغط نفسي شبه دائمة إذ أن هذه الألية “القتال أو الهروب” لا تتعلق فقط في حالات الفزع . أنت تفعل هذه المكيانيكية في حال تذكرت أنك لم تكمل واجبك المدرسي، أو حين يعلق لك أحد اصدقائك الفيسبوكيين بتعليق لا يعجبك، أو حين تريد أن تركب الباص و لا تجد مقعد مناسب، أو حين تلعب ألعاب الفيديو، أو حين ينادي اسمك أستاذ الجامعة لكي تقدم عرضك التقديمي أو حين يخسر فريقك المفضل في جولة رياضية و هكذا.
نحن لم نتطور لنعيش بهذه الطريقة. تطورنا للعيش في الطبيعة و لدينا آليات دفاعية ضرورية فقط في حالات الخطر. اليوم نحن بخطر دائم دون أن نشعر و لذلك نشعر بالخمول و نأكل الأطعمة العالية في السعرات الحرارية. هذا يؤدي إلى تدهور حالتنا الصحية بشكل عام و اضرار بوظائف الجسم و أمراض هي في دورها تسبب أثار سلبية اضافية. هذا التراكم هو سبب صغطنا النفسي المتواصل.
مهما فعلنا فإن هذه الدائرة الكيمائية مستمرة في درجات متفاوته:
ضغط نفسي _ افراز كورتيزول _تحويل سكر _ افراز أنسولين _تحويل إلى دهون _ تخزين دهون _ افراز لبتين _الشعور بالجوع _ الشعور بالخمول _ طعام _ ضغط نفسي _ كورتيزول _ تحويل إلى سكر و هكذا…. طوال اليوم
لهذا السبب نحن نحب أن نأخذ اجازاتنا بعيداً عن ضغوط المدينة و أقرب إلى الطبيعة حيث نستطيع ممارسة حيانتا كما صممها التطور.
السعادة نتيجة عن المتعة:
السعادة حالة عامة تتعلق بالاستقرار الهرموني في الجسم. الإنسان الذي يحقق استقراراً هرمونياً في أغلب الأحيان هو إنسان سعيد. كلما كانت خياراتك خيارات تساهم في إفرازات هرمونية إيجابية بشكل طبيعي فأنت تتجه نحو حالة عامة سعيدة. الفرق بين السعادة و المتعة هو أن المتعة هي تكتيك و السعادة استراتجية. كلما كانت أساليبك في الحصول على الإستقرار الهرموني ناتج عن أساليب طبيعية كلما اقتربت من حالة السعادة.
طبعاً الاستقرار الهرموني لا يمكن اختزاله بالدوبامين فقط و إنما يوجد لدينا طيف واسع من الهرمونات (ذكرت بعضها في الأعلى) التي تتفاعل مع بعضها البعض. فمثلاً هرمونات الأوكسيتوسن و السيروتونين و الإندورفين و غيرها جميعا تشكل الخلطة الأساسية للحالة النفسية للفرد. كلما كانت نسب هذه الهرمونات متوازنة كلما كانت حالة الإنسان مستقرة و أقرب إلى السعادة. يجدر الذكر أن هرمون السيروتونين له وظائف هامة جداً في استقرار الحالة النفسية (الدماغية) عند الإنسان و هو يسمى هرمون السعادة.
من وجهة نظري أفضل طريقة للبحث عن السعادة هي أن ينظم الإنسان حياته بحيث يستطيع الحصول على الجرعات الهرمونية التي ذكرتها سابقاً دون الحاحة للإعتماد على محفزات خارجية بعيدة عن سيطرته. مثلاً القدرة على الحصول على الدوبامين دون الإعتماد على النيكوتين أو افراز الإندورفين (هرمونات تخفف استشعار الألم) عن طريق الرياضة وليس جرعات دوائية أو الأوكسيتوسن من خلال ترابط أسري فيزيائي وليس علاقات وهمية ممكن أن تتبدد دون سيطرة الإنسان عليها.
في قول أخر السعادة نتيجة هرمونية لقرارتنا اليومية. كلما كانت تفاعلتنا تُنتج هرمونات ايجابية عبر وسائل طبيعية كلما كنا أقرب لحالة السعادة في المقابل كلما اعتمدنا على محفزات خارجة عن سيطرتنا كلما كانت حالتنا النفسية غير مستقرة وبعيدة عن السعادة.
من تجربتي الشخصية أجد أن الحالة النفسية التي تتبنى تخفيض التوقعات ورؤية العالم بشكل واقعي يساهم في خوض مجريات الحياة بشكل أقرب إلى السعادة.
حين نفهم آليات الجسد و نتعرف على أسباب شهوتنا المفاجئة لاصبع من الشكولا أو رغبتنا في تناول وجبة من البطاطس المقلية أو لماذا نحب التهام البوشار أثناء مشاهدة الأفلام. نستطيع تحديد المفاصل الإشكالية في حياتنا و العمل على تفاديها قدر الإمكان.
في حال تذكرت أمراً يضغطني نفسياً… عادةً ما أذكر نفسي أنني سأشعر بالجوع قريباً و لن أعطي لنفسي العنان لأنني لست بحاجة هذه الحريرات و هي فقط جزء من دورة الضغط النفسي. ساحول هذا الشعور السيئ الذي راودني إلى ألية في تخفيف وزني فيصبح ماهو سلبي أيجابي بالنسبة لي.
أروض نفسي أن لا أحمّل الأمور أكثر من ما تستحق. أهدئ من روعي بشكل عام وإذا شعرت بالتوتر أذكر نفسي أن شعوري السيئ هذا ما هو إلا محاولات صادقة يقوم بها جسدي لانفاذ حياتي.
المصدر المصدر