04‏/11‏/2018

الاجتياح التتري لسمرقند سلسلة قصة التتار - الحلقة [6]


كانت سنة 617 هـ من أبشع السنوات التي مرَّت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى

هذه اللحظة؛ لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسْبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيَّل أصلاً. فبعد أن دمَّر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا

أهلها، وحرَّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا
إلى المدينة المجاورة «سمرقند» (وهي -أيضًا- في دولة أوزبكستان
الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين


من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: «فساروا بهم على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قُتل»[1].
أمَّا لماذا كانوا يصطحبون الأُسارى معهم؟
#فلأسباب_كثيرة:-
#أولاً -:كانوا يُعطون كل عشرة من الأسارى عَلمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظنَّ أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل مرهوب، فلا يتخيَّلون أنهم في قدرتهم أن يُحاربوهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدبُّ في قلوب مَنْ يواجهونهم.
#ثانيًا -:كانوا يُجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضدَّ أعدائهم؛ ومَنْ رفض القتال أو لم يُظهر فيه قوَّة قتلوه.
•- #ثالثًا -كانوا يتترَّسُون بهم عند لقاء المسلمين؛ فيضعونهم في أوَّل الصفوف كالدروع لهم، ويختبئُون خلفهم، ويُطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم.
#رابعًا -  كانوا يقتلونهم على أبواب المدن؛ لبثِّ الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
#خامسًا  : كانوا يُبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلَّة هزائم جيش التتار.
#كيف_كان_الوضع_في_«سمرقند»
كانت «سمرقند» من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين
في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية؛ ولقيمتها الإستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم الدولة الخُوارِزمية خمسين ألف جُندي خُوارِزمي لحمايتها، هذا فوق أهلها،
وكانوا أعدادًا ضخمة تُقَدَّر بمئات الآلاف؛ أمَّا «محمد بن خُوارِزم شاه»
نفسه فقد استقرَّ في عاصمة بلاده مدينة «أورجندة».
وصل جنكيزخان إلى مدينة «سمرقند» وحاصرها من كل الاتجاهات؛ وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخُوارِزمي النظامي، ولكن -لشدَّة الأسف- لقد دبَّ الرعب في قلوبهم، وتعلَّقُوا بالحياة
تعلُّقًا مخزيًا؛ فأَبَوْا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!
فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم؛ وذلك بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم، وقرَّر بعض الذين في قلوبهم حمية من عامَّة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، وبالفعل خرج سبعون ألفًا من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم؛ خرجوا جميعًا على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم
من الدراية العسكرية حظٌّ يُمَكِّنهم من القتال؛ ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن
يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد.
وعندما رأى التتار أهل «سمرقند» خرجوا لهم قرَّرُوا القيام بخدعة خطيرة؛ وهي الانسحاب المتدرِّج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيدًا عن مدينتهم؛ وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيدًا عن «سمرقند» وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطَّة التتار،
وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدَّمُون خلفهم؛ حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة
بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تمامًا؛ وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال «سمرقند»[2].
(( لقد قُتلوا جميعًا! لقد استشهدوا عن آخرهم! ))
فَقَدَ المسلمون في «سمرقند» سبعين ألفًا من رجالهم دفعة واحدة![3]، (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلًا فقط في موقعة أُحُد؟!)، والحقُّ أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقَّعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تُحيط بدولتهم.
وأخذ الجيش الخُوارِزمي النظامي قرارًا مهينًا!
لقد قرَّرُوا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم؛ وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسُّكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلَّقُون بأهداب أمل مستحيل.. وقال لهم عامَّة الناس: إن تاريخ التتار معهم
واضح. ولكنهم أصرُّوا على التسليم؛ فهم لا يتخيَّلُون مواجهة مع التتار،
وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش
أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامَّة الناس؛ فقد كان الجيش الخُوارِزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!
وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين؛ فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نُسَيِّركم إلى مأمنكم. ففعلوا ذلك في خنوع، ولمَّا أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقَّعًا منهم؛ لقد وضعوا السيف في الجنود الخُوارِزمية فقتلوهم عن آخرهم[4]! ودفع الجند جزاء ذلَّتهم.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
ثم دخل التتار مدينة «سمرقند» العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقًا في «بخارى»؛ فقتلوا أعدادًا لا تُحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذَّبُوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثًا عن أموالهم، وسبوا أعدادًا هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنِّه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خرابًا![5]، وهكذا سقطت سمرقند في شهر (المحرم 617هـ=مارس 1220م).
• - وليت شعري! كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحرَّكُوا؟!
• -
كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمَّعُوا لقتال التتار؟!
كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرِّقين؟! لقد كان كل حاكم من حكَّام المسلمين يحكم قطرًا صغيرًا، ويرفع عليه عَلمًا، ويعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي؛ حتى لو كانت الحرب على بُعد أميال منهم! ولا تندهش مما تقرأ الآن.. وخبِّرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرَّك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟!
لم يُفَكِّر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتمًا ستدور عليه؟! وأنَّ ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدِّمة لأحداث دامية أليمة سيُعاني منها كلُّ المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد؟! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
#نهاية_ذليلة!
واستقرَّ جنكيزخان -لعنه الله- بسمرقند؛ فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم يَرَ مثلها قبل ذلك، وأوَّل ما فكَّر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضدَّه؛ فأرسل عشرين ألفًا من فرسانه يطلبون «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم البلاد، وإرسال عشرين ألف جندي فقط فيه إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيزخان بمحمد بن خُوارِزم وبأُمَّتِه؛ فهذا الرقم الهزيل لا يُقارن بالملايين المُسلمة التي سيتحرَّك هذا الجيش التتري في أعماقها! ولنشاهد ماذا فعلت هذه الكتيبة التترية الصغيرة..
قال لهم جنكيزخان: «اطلبوا خُوارِزم شاه أين كان، ولو تعلَّق بالسماء!»[6].
فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة «أورجندة» حيث يستقرُّ «محمد بن خُوارِزم شاه»، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون (نهر أموداريا)، وجاء الجنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وهكذا فصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون، ولكن هذا التماسك لم يكن إلاَّ لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وليس مع التتار سفن!
#فماذا_فعل_التتار؟!
لقد أخذوا في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر؛ حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلَّقاتهم، ثم أنزلوا الخيول في الماء، والخيول تجيد السباحة، ثم أمسكوا بأذناب الخيول، وأخذت الخيول تسبح والجنود خلفها.. يسحبون خلفهم الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره[7].
وبهذه الطريقة عَبَرَ جيش التتار نهر جيحون، ولا أدري أين كانت عيون الجيش الخُوارِزمي المصاحب لمحمد بن خُوارِزم شاه! وفُوجئ المسلمون بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة؛ فإنهم كانوا قد مُلِئُوا من التتار رعبًا وخوفًا، وما كانوا يتماسكون إلاَّ لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين وحوش التتار؛ أمَّا الآن وقد أصبح التتار على مقربة منهم؛ فلم يُصبح أمامهم إلا طريق واحد.. أتراه طريق القتال؟!
(( لا.. بل طريق الفرار ))!
وكما يقول ابن الأثير: «ورحل خُوارِزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته»[8]. واتجه إلى نيسابور (في إيران حاليًّا)، أمَّا الجند فقد تفرَّق كل منهم في جهة؛ ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! وأمَّا التتار فكانت لهم مهمَّة محدَّدة؛ وهي البحث عن «محمد بن خُوارِزم شاه»؛ ولذلك فقد تركوا «أورجندة»، وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها، وهم لا يزيدون على عشرين ألفًا! وجنكيزخان ما زال مستقرًّا في «سمرقند»، وكان من الممكن أن تُحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجوَّلُون فيها؛ لكن الرعب وحب الدنيا والخوف عليها كان قد استولى على قلوب المسلمين؛ فكانوا يفرُّون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظلَّ يفرُّ من بلد إلى آخر كما نرى!
لم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرَّضُون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل؛ لأن لهم هدفًا واضحًا، فهم لا يُريدون أن يُضَيِّعوا وقتًا في القتل وجمع الغنائم، إنما يُريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرَّضوا لهم؛ لئلا يُثيروا حفيظتهم؛ فيصيبهم أذاهم!
هكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة، ولم يتمكَّن «محمد بن خُوارِزم شاه» من جمع الأنصار والجنود؛ فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلمَّا علم بقربهم من نيسابور؛ ترك المدينة واتجه إلى مدينة «مَازَنْدَرَان» (من مدن إيران)، فلمَّا علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مَازَنْدَرَان إلى مدينة «الرَّيّ»، ثم إلى مدينة «هَمَذَان» (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة «مَازَنْدَرَان» في فرار مخزٍ فاضح، ثم اتجه إلى إقليم «طبرستان» (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر، ولم يجدوا ما يركبونه خلفه[9].
لقد نجحت خطة الزعيم الخُوارِزمي المسلم! نجحت خطَّة الفرار!
وصل الزعيم محمد بن خُوارِزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك، في فقر شديد وحياة صعبة؛ وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالًا لا تُعَدُّ! ولكن رضي بذلك لكي يفرَّ من الموت! وسبحان الله! فإن الموت لا يفرُّ منه أحد؛ فما هي إلا أيام، حتى مات «محمد بن خُوارِزم شاه» في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يُكَفِّنُونه به، فكفَّنُوه في فراش كان ينام عليه[10]!  وصدق الله القائل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].

الطريق إلى بغداد سلسلة قصة التتار الحلقة [19]


مضى خمس سنوات كاملة من الإعداد والتجهيز المغولي للحرب الكبيرة على بغداد، وفي هذه السنوات: • - أصبحت كل الطرق بين الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصُنعت العربات اللازمة لنقل المعدَّات الثقيلة، وفُرِّغت السهول والطرق من المواشي لترك الأعشاب لخيول التتار.
• - سيطر التتار على كل المحاور المهمَّة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق؛ وبذلك تحقَّقت مهمَّة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي.
• - توافرت لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود العباسيين وحالتهم العسكرية، واطَّلع اطِّلاعًا كاملاً على خبايا الاقتصاد الإسلامي، وتوافرت له -أيضًا- معلومات عن عناصر القوَّة والضعف في الخلافة العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم.
كل هذه المعلومات توافرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز المهمَّة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحيانًا إلى الاتصالات مع الأمراء والوزراء كما وضحنا.
• - عقد التتار معاهدات وتحالفات مع نصارى الأرمن والكُرْج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة.
• - تم تحييد ملوك أوربا الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسيًّا في المقام الأول؛ إنما كان عن
طريق السلطان وفرض الكلمة بقوَّة الرأي والسلاح.  • - تمَّ الاتفاق مع معظم أمراء الممالك

الإسلامية المحيطة بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يُعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير المشروطة لهولاكو؛ وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء الأمراء كانوا من الأكراد من حفدة صلاح الدين الأيوبي!
• - تأكَّد هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، واستوى في ذلك الحكَّام والمحكومون.
• - أقام هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه التامَّ له.
• - تيقَّن هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلَّة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن يُدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!
• - أدرك هولاكو كل شيء عن الخليفة «المستعصم بالله» خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته، وقدَّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه.
تمَّت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654 هجرية. وبناءً عليه أدرك هولاكو أن المناخ العامَّ أصبح ملائمًا للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، وإسقاط بغداد؛ فبدأ عملية حشد هائلة للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش للتتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان؛ بحيث كان الجنود المكلَّفُون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوَّات المكلفة بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
تركيبة الجيش التتري كما يلي:
  #أولاً: الجيش التتري الأصلي؛ الذي كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأَذْرَبِيجَان شرق العراق.  #ثانيًا: استدعى هولاكو فرقة من جيش التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا

الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير «باتو» (فاتح أوربا)، ولكن باتو لم يأتِ بنفسه؛ وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان «باتو» وعائلته قد كوَّنُوا دولة مستقرَّة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم اسم القبيلة الذهبية، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم؛ فإنهم كانوا في النهاية يتبعون زعيم التتار «منكوخان».
 #ثالثًا: أرسل هولاكو في طلب فرقة من جيش التتار المكلَّف بفتح أوربا؛ الذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير «بيجو»، وقد جاءت هذه الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومُتَّجِهة إلى بغداد، ولم تلقَ أي نوع من المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حُكَّام هذه المناطق المسلمة كانوا قد أفرغوا المجال الأرضي لقوَّات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل وحلب وحمص!
 #رابعًا: أرسل هولاكو إلى «صديقه» ملك أرمينيا يطلب المساعدة؛ فجاءه «هيثوم» ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه.
 #خامسًا: طلب هولاكو -أيضًا- من ملك الكُرْج أن يُرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فورًا[1]
 #سادسًا: استدعى هولاكو ألفًا من الرماة الصينيين المهرة؛ الذين اشتهروا بتسديد السهام المحمَّلة بالنيران[2].
 #سابعًا: وضع هولاكو على رأس جيوشه أفضل قوَّاده، وكان اسمه «كتبغا نوين[3]» [4]، وفوق إمكانياته القيادية والمهارية فإنه كان
نصرانيًّا؛ وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش، وبذلك ضمَّ الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر

القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو.
 #ثامنًا: راسل هولاكو أمير أنطاكية «بوهيموند السادس»، ولكن تعذَّر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه كان على استعداد تامٍّ للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام.
 #تاسعًا: أرسل الناصر يوسف أمير دمشق ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو.
 #عاشرًا: أرسل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ فرقة مساعدة لجيش التتار[5].
وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين؛ فإنهما كانتا تحملان معاني كثيرة، فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين! بل قد يُشارك في عملية «تحرير العراق» عراقيون متحالفون مع التتار! عراقيون باعوا كل شيء في مقابل كرسي صغير، أو إمارة تافهة، أو دارهم معدودات، أو مجرَّد حياة.. أي حياة!
وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطَّة المعركة.
• - وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثِّل خطورة على الجيش التتري؛ فطائفة الإسماعيلية مشهورة بقوَّة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان؛ ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم راسلوا قبل ذلك التتار ليدلُّوهم على ضعف جلال الدين بن خُوارِزم قبل مقتله في سنة 629 هجرية، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلَّفون لأصحاب القوَّة، مع كل هذه الاعتبارات فإن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرَّك الجيوش

التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوَّات عسكرية للإسماعيلية، هذا إضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية؛ فقد قتلت الإسماعيلية ابنًا من أبناء جنكيزخان اسمه «جغتاي[6]»، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر من ثلاثين سنة!
• - لم ينسَ التتار هذا الثأر؛ لأنه يخصُّ ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من عائلة جنكيزخان نفسها، ويعتبرون الثأر من الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة؛ حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم ابنة «جغتاي» القتيل القديم؛ وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها بالثأر لأبيها.
• - كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلُّص من الإسماعيلية نهائيًّا، وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.
• - وتحرَّكت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو حصن «آلموت» في غرب فارس، وما هي إلاَّ أيام حتى تمَّ تطويق الحصن المنيع، ولما شاهد زعيم الإسماعيلية «ركن الدين خورشاه» هذه الأعداد التي لا تُحصى طلب أن يُقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل الوصول إلى بغداد، والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة[7]، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمَّم على القتال عاصيًا بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عَنْوَة بعد ذلك بأيام، وذبحوا كل مَنْ فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى «منكوخان» ليتفاوض معه شخصيًّا في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود، وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطًا بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن يُقابله واستحقره جدًّا؛ وقال: «إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة». ثم أمر جنوده بإعادة ركن الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قُتل ركن الدين خورشاه كما يقولون «في ظروف غامضة». وإن كانت الظروف ليست بغامضة؛ فمن الواضح أن «منكوخان» قد أوصى بقتله، ولكن خارج البلاط المغولي؛ لئلاَّ يُتَّهم البلاط بالغدر[8]!
• - وبعد قتل #ركن_الدين_خورشاه قام «هولاكو» بخدعة خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم، والتعاون معًا لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء الإسماعيلية من كل مكان؛ حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو -كما يزعم- يخشى أن يضخم الإسماعيلية أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر؛ وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم، حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كلَّ مَنْ أمسكه في يده[9]، ولم ينسَ أن يأخذ مجموعة من الرجال إلى «سالقان خاتون» ابنة «جغتاي» وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها؛ لتأخذ بثأر أبيها «جغتاي» المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك[10].
وهكذا تمَّ في خلال سنة 655 هجرية استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريبًا، ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، ولم يأتِ في عملية الإحصاء المزعومة.
وبذلك أصبح الطريق آمنًا مفتوحًا إلى بغداد؛ وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء -ولكن بنظام- في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة جدًّا!
• - وقبل التحدُّث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أُشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار «بهولاكو»، أو إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مسوِّغٍ واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد؛ فالناظر إلى الأحداث دون تعمُّق، والدارس للأمر دراسة سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار -وهم من أخس أهل الأرض، ومن الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات- أن يفعلوا كل هذا الذي فعلوه بالمسلمين، والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله؛ المقيمين للصلاة، والقارئين لكتاب الله؟!
فأحببتُ أن أتجوَّل معكم في هذا الإعداد الطويل المرتَّب، الذي لم يُقابل بأقلِّ درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى، والبلية العظمى!
إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحِّدين المسلمين، ولا يعدُّ العدَّة ولا يأخذ بالأسباب واهمٌ في إمكانية تحقيق النصر؛ إن التتار لم ينتصروا على المسلمين لكرامة لهم عند الله عز وجل، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن أسوئهم أخلاقًا، ولكنهم أعدُّوا العدَّة، وأخذوا بالأسباب؛ فتحقَّقت على أيديهم النتائج التي خطَّطُوا لها.
وهذه سُنَّة مطَّردة؛ وكثيرًا ما رأينا اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويُكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء بالأسباب المادِّيَّة، وتركها المسلمون.
وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب المادِّيَّة فقط ويتركوا مسبب الأسباب –سبحانه-؛ إنما المقصود هو العمل الجادُّ الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله عز وجل طلبًا للتوفيق والنصر، وإذا تمَّ النصر علمنا أنه من عند الله عز وجل، ولم نتكبَّر أو نتجبَّر أو نعتقد في خروجنا عن دائرة حكم الله عز وجل.
والتاريخ -يا إخواني- يتكرَّر. وما فعله التتار من إعداد ضدَّ المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك. وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله المسلمون بعد ذلك أيضًا.
وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك الصورة، فلا شكَّ أن النتائج في عصرنا ستأتي على الصورة نفسها إذا لم يفقه المسلمون الأمر ويعيدون ترتيب أوراقهم وفقًا للفهم الصحيح. ولذلك نقصُّ التاريخ.