04‏/11‏/2018

محاولات التآمر الصليبي التتري من جديد سلسلة قصة التتار الحلقة [16]


• - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحنُ يومئذٍ؟ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ؛ وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله وما الْوَهَنُ؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ»[1].
=================
لم يبقَ فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس، (غرب إيران الآن)، وهو على قدر من الأهمية -وإن كان ضَيِّقًا-؛ إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب

وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلًا عن طبيعة المكان الجبلية، وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية، وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيرًا؛ فمرَّة يُراسلون التتار، وأخرى يُراسلون الصليبيين، وكان التتار يُدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنُّون
إليهم؛ فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوَّة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض.
===============
• 
#بين639هجرية_إلى_649هجرية:
بعد تولية «كيوك بن أوكيتاي» خاقان التتار الجديد قرَّر أن يُوقف الحملات التوسُّعِيَّة، ويتفرَّغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة؛ وقد ظلَّ «كيوك» يحكم من سنة 639 هجرية إلى سنة 646 هجرية، وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلادًا جديدة إلا فيما ندر، وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار؛ وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري.
• - في سنة 640 هجرية تُوُفِّيَ المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولَّى الخلافة ابنه «المستعصم بالله»، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا؛ وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير؛ فإنه لم يكن يفقه كثيرًا -ولا قليلًا!- في السياسة، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه، وسنأتي إلى ذكره بعد ذلك؛ فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك.
 -وعندما رأى الصليبيون في غرب
أوربا النهج غير التوسعي عند «كيوك»؛ تجدَّدت آمالهم في التعاون مع التتار ضد المسلمين، فأرسل البابا «إنوسنت الرابع» سفارة إلى منغوليا في سنة 643 هجرية، وكان غرض السفارة هو التوحُّد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، (لم يكن همُّها -مثلاً- أن ترفع الاحتلال والظلم عن نصارى أوربا وروسيا)، واستقبل «كيوك» السفارة الصليبية بحفاوة؛ لكثرة النصارى في البلاط المغولي، ولكن عندما قرأ كيوك رسالة البابا وجده -إضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضدَّ المسلمين- فإنه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، واعتبر خاقان التتار أن هذا تعدِّيًا من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان التتار أن يُغَيِّر من ديانته؟! فأعاد الخاقان «كيوك» السفارة الصليبية بعد أن حمَّلها برسالة إلى البابا يطلب منه أن يجمع أمراء الغرب الأوربي جميعًا؛ ليأتوا إلى منغوليا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، وبعد ذلك يبدأ التعاون، وبالطبع رفض ملوك أوربا الغربية هذا الطلب؛ وبذلك فشلت السفارة الصليبية في تحقيق أهدافها.
• - لكن البابا الكاثوليكي «إنوسنت الرابع» لم ييأس من فشل هذه السفارة؛ بل أرسل سفارة صليبية أخرى، ولكنه هذه المرَّة أرسلها إلى قائد القواد
التترية في مدينة «تبريز» بمنطقة


فارس الملاصقة للخلافة الإسلامية
، وكان اسمه «بيجو» وذلك في سنة 645 هجرية، وقد لمس فيه البابا حبًّا للعدوان والهجوم، وعلم أنه من أنصار التوسُّع من جديد في أراضي المسلمين، وقد لاقت السفارة ترحيبًا كبيرًا من «بيجو» الذي توقَّع أن هجوم الصليبيين على مصر والشام سوف يشغل المسلمين في هذه الأقاليم عن الدفاع عن الخلافة العباسية في العراق؛ وبذلك تسهل مهمته في اقتحامها؛ ولكن لا يخفى على أحد أن صلاحيات «بيجو» لم تكن تُؤَهِّله لاتخاذ مثل هذا القرار الإستراتيجي الخطير بالتعاون مع الصليبيين، وكان «كيوك» ما زال على رأيه في عدم التوسُّع، وعدم التعاون مع الصليبيين إلا بعد خضوعهم له؛ ومن ثَمَّ فشلت -أيضًا- هذه السفارة الثانية[2].
في هذه الأوقات كان «لويس التاسع[3]» ملك فرنسا يجهِّز لحملته الصليبية على مصر؛ التي عُرفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646 هجرية، وقد رأى «لويس التاسع» أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضدَّ المسلمين؛ فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من «كيوك» في هذه الحملة، وزوَّد السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة؛ لكن عندما وصلت هذه السفارة

إلى «قراقورم» العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار «كيوك»، ولم يكن «كيوك» قد ترك إلاَّ أولادًا ثلاثة صغارًا؛ لا يصلحون للحكم في هذه السنِّ الصغيرة، فتولَّت أرملة «كيوك» -وكانت تدعى «أوغول قيميش»- الوصاية عليهم؛ ومن ثَمَّ تولَّت حكم التتار، وذلك ابتداءً من سنة 646 هجرية، ولمدة ثلاث سنوات[4].
توجَّهت إلى ملكة التتار الجديدة سفارةُ لويس التاسع؛ فاستقبلتها بحفاوة، لكنها اعتذرت عن إمكانية المساعدة في الحملة الصليبية الآن؛ لأنها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت «كيوك»، إضافة إلى أن عامَّة قوَّاد التتار لم يكونوا موافقين على حكم امرأة لدولة التتار العظيمة، والتي تعتمد في الأساس الأول على البطش والإجرام والقوَّة؛ فكانت الأوضاع غير مستقرَّة تمامًا في منغوليا[5].
ل• - كن لويس التاسع أصرَّ على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، فتوجَّه فعلاً من قبرص إلى مصر، ونزل بدمياط في سنة 647 هجرية، واحتلَّ دمياط، ثم تجاوزها إلى داخل مصر -عبر نهر النيل- في اتجاه القاهرة، ولكن الجيش المصري قابله في المنصورة، وكان معه سلطان مصر الصالح أيوب، الذي مات بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة في المنصورة، وتولَّت أمر مصر السلطانة شجرة الدر[6] زوجة الصالح أيوب؛ التي أخفت خبر وفاة زوجها، وراسلت توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب[7]، وكان يحكم إحدى المناطق في تركيا، وقامت شجرة الدر -بالاشتراك مع قواد الجيش فارس الدين أقطاي[8]، وركن الدين بيبرس[9]- بإدارة موقعة المنصورة المشهورة ضدَّ الصليبيين، وانتصر المسلمون في هذه الموقعة، ثم وصل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى مصر، وتولَّى حكم البلاد، وانتصر مرَّة أخرى على الصليبيين في موقعة فارسكور، وأسر لويس التاسع وذلك في سنة 648 هجرية[10]، ثم حدثت بعض الفتن في مصر، وقُتل توران شاه، وتولَّت شجرة الدر مُلك مصر علانية، ولكن الجوَّ العام في مصر لم يكن يقبل بولاية امرأة؛ فتزوَّجت من أحد قادة المماليك وهو عز الدين أيبك، ثم أصبح سلطانًا على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفًا للأيوبيين. • - المهم في تلك الأحداث أن نُشير إلى ظهور قوَّة المماليك، وفشل الحملة الصليبية السابعة، وهذا -ولا شكَّ- قد زاد من حقد الصليبيين، وأكَّد ضرورة التعاون مع التتار لحرب المسلمين.
أمَّا الوضع في منغوليا فلم يكن مستقرًّا؛ فالتتار لم يستطيعوا قبول أرملة «كيوك» كملكة عليهم؛ ومن ثَمَّ اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى «بالقوريلتاي»، وذلك في سنة 649 هجرية، وقرَّرُوا اختيار خاقان جديد للتتار؛ وبالفعل اختاروا «منكوخان[11]» ليكون زعيمًا جديدًا للتتار[12].
وكان اختيار «منكوخان» زعيمًا لمملكة التتار بداية تحوُّل كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار؛ فقد كانت لديه سياسة توسُّعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسِّس الأول لدولة التتار، وشبيهة -أيضًا- بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوربا في عهده؛ ومن ثَمَّ بدأ «منكوخان» يُفَكِّر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين.
===================
 
#المسلمون_فرقة_وخلاف:
ومع الأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وقت تولية «منكوخان» لم يكونوا على مستوى الحدث الكبير، والمسلمون -وإن كانوا قد انتصروا في موقعة المنصورة في مصر سنة 648 هجرية- فقد كانوا مشغولين جدًّا بأنفسهم؛ ففضلاً عن الفتن الداخلية في كل إمارة، والتصارع على الحكم، فقد كانت تقوم حروب مريرة بين الإمارات الإسلامية، والضحايا جميعًا من المسلمين.
ومن ذلك الحرب الكبيرة التي دارت بين الجيش المصري بقيادة عز الدين أيبك والجيش الشامي الذي أرسله الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ودارت رحاها في منطقة تسمى «العباسية» (18 كيلومتر شرق مدينة الزقازيق المصرية حاليًّا)، وانتصر فيها الجيش المصري، ولا أدري كيف كانت تطيب نفوسهم بهذه الحروب، والحملات الصليبية لا تتوقَّف، والتتار يقفون على أبواب الخلافة العباسية[13]!
والغريب جدًّا في هذه الفترة أن الحكام والشعوب -بل والعلماء- كانوا قد نسوا تمامًا أن نصف الأُمَّة الإسلامية يقع تحت الاحتلال التتري، ونسوا أن التتار أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية، ومن الحجاز ومصر والشام، لدرجة أن المؤرِّخين الذين يُؤَرِّخُون لهذه الفترة لا يذكرون البتة أي شيء عن التتار!
• -فعلى سبيل المثال تجد ذكر التتار يختفي في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير: عند تأريخه للفترة من سنة 639 هجرية إلى 649 هجرية (فترة حكم «كيوك» ثم أرملته)؛ والتي لم يحدث فيها توسُّع تتري، وكأن القضية التترية قد حُلَّتْ، وما ترك ابن كثير: الكلام عن التتار إلاَّ لقلَّة المصادر التي تتحدَّث عن هذه الفترة، ولقلَّة الأخبار التي كان أهل العراق والشام ومصر يتناقلونها عن جيوش التتار، أو عن المسلمين الذين يعيشون تحت الظلم التتري المستمر.
بل وتجد ابن كثير عند وصفه للحياة في العراق والشام ومصر في هذه السنوات العشر يصف حياة طبيعية جدًّا؛ فالخليفة يُعالج بعض المشكلات الاقتصادية، ويتصدَّق على بعض الفقراء، وقد يحدث وباء فيُعالج، أو غلاء فيشقُّ ذلك على الناس إلى أن يمنح الخليفة بعضًا من المال لمقاومة الغلاء، وهذا يفتح مدرسة، وذاك يفتح دارًا للضيافة، وغيره يفتح دارًا للطب، ومن أحوال هذه السنوات أن مات فلان من الشعراء، وفلان من الأدباء، وفلان من الكرماء، وفلان من الوزراء! لكن أين العلماء الذي يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم يشرحون للناس خطر التتار، ومصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار؟! وأين الحكام الذين يجهِّزُون شعوبهم ليوم لا محالة هو آتٍ؟ لم يكن هذا مشتهرًا في ذلك الوقت؛ ومن ثَمَّ اختفى ذكره من كتب التاريخ!
• -وهكذا فأحداث ذلك الزمان كانت تُشير كلها إلى أن اجتياحًا تتريًّا جديدًا سوف يحدث قريبًا، وذلك على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيزخان، أو على غرار الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي، ولعلَّه يكون أشدَّ وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرَّط المسلمون في شيء طمع أعداء الأُمَّة في الشيء الذي يليه، وهذه سُنَّة ثابتة لأهل الباطل، وراجعوا التاريخ والواقع!
وهنا تتوقف رحلتنا بعد محاولات التآمر الصليبي التتري علي المسلمين, و سنكمل رحلتنا عن خطة هولاكو لهدم الخلافة العباسية ,