بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
نرحب بكم أيها الأخوة والأخوات ، نصطحبكم في
موسوعة الأخلاق الإسلامية مع خلق جديد من الأخلاق ، جزاكم الله خيراً .سيدي الكريم نتمنى أن نتحدث اليوم وإياكم عن خلق التفاؤل ، وهل التفاؤل حسن الظن بالله عز وجل ؟ ما تعريف هذا الخلق ؟ .
تعريف التفاؤل :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .التفاؤل : هو حسن الظن بالله ، والتفاؤل توقع الخير ، والتفاؤل ألا تسمح للمصائب أن تأخذك إلى اليأس ، التفاؤل أن ترى ما عند الله ، وأن تكون واثقاً بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك ، التفاؤل أن تكون غنياً بالله ، التفاؤل أن تنقل اهتماماتك إلى الدار الآخرة ، فالدنيا عندئذٍ لا تعنيك ، التفاؤل أن ترى الهدف البعيد ، فإذا حالت عقبات دونه وأنت مُصر عليه فأنت متفائل ، والتفاؤل صفة العظماء ، والتفاؤل صفة المؤمنين ، والتفاؤل صفة الذين عرفوا أن الأمر بيد الله ، صفة الموحدين ، فالتفاؤل توقع الخير ، والتفاؤل حسن الظن بالله ، والتفاؤل أن تكون محصناً من أن يأخذك اليأس إلى مكان بعيد .
الأستاذ أحمد : قلتم أن التفاؤل من صفات المؤمنين ، أين أرشدنا القرآن الكريم إلى أن التفاؤل من صفات المؤمنين ؟.
التفاؤل أساسه الإيمان و هو ثمرة من ثمراته :
الدكتور راتب :
المؤمن متفائل حتماً ، لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر بيد الله ، وأن الله قوي .
(( ما شاءَ اللهُ كانَ ، وما لم يشأْ لم يكن ))
وأن الله في أية لحظة بيده المعادلات كلها ، بيده موازين القوى ، وأن الأمر يرجع إليه ، وما أمرك الله أن تعبده إلا بعد أن طمأنك فقال :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
التفاؤل أساسه الإيمان ، أنت حينما تؤمن أن الله وحده هو القوي ، وأن أمره هو النافذ ، وأن :
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
ما دام الله عز وجل ، صاحب الأسماء الحسنى ، هو الرحيم ، هو العدل ، هو القوي ، هو الغني ، هو الحنان ، هو المعطي ، ما دام الأمر بيده الله عز وجل قال :
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ألزم ذاته العلية إلزاماً ذاتياً في الاستقامة ، هو العدل ، وسعت رحمته كل شيء ، لا يمكن أن يجتمع إيمان بالله مع التشاؤم ، إيمان بالله مع اليأس ، إيمان بالله مع السوداوية ، لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾
أي كأن التشاؤم من صفات الكفار ، وكأن التفاؤل من صفات المؤمنين .
التشاؤم من صفات الكفار والتفاؤل من صفات المؤمنين :
الإيمان بالله أثمر التفاؤل ، وعدم الإيمان
به يؤدي إلى التشاؤم ، إنسان لا يرى أن الله بيده كل شيء ، يرى قوى مخيفة ،
طاغية ، معتدية ، حاقدة ، جبارة ، لا ترحم ، وأنه ضعيف أمامها ، طبعاً
تحصيل حاصل أن يكون متشائماً ، تحصيل حاصل أن يسحق نفسياً ، أن يحس
بالإحباط ، كل مشاعر الإحباط ، والخوف الشديد القاتل ، واليأس القاتل ،
بسبب ضعف الإيمان .
مثلاً لا أعتقد أن هناك حالة أصعب من أن يكون
عدواً قوياً ، حاقداً ، ظالماً ، متغطرساً ، وراءك بكل قوته ، وأنت مع بعض
الأشخاص قلة قليلة لا تملكون شيئاً ، والبحر أمامكم .
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
لا يعقل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الغار ، وقد وصلوا إليه ، وقد وضعت مئة ناقة لمن يأتي به حياً ، أو ميتاً ، وأن يبقى ثابتاً ، واثقاً من الله عز وجل ، قال يا رسول الله ، في رواية : لقد رأونا ، وفي رواية :
(( لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا تحت قدميه . فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ))
طبعاً هذه صفات الأنبياء ، لكن لكل مؤمن من هذه الصفات نصيب بقدر إيمانه ، فأنت حينما ترى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ
أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
هذه آية تملأ القلب تفاؤلاً ، أنت إنسان مستقيم ، وقاف عند حدود الله ، دخلك حلال ، بيتك إسلامي ، عملك إسلامي ، لا تعصي الله ، لا تكذب ، لا تغش المسلمين ، لم تبنِ مجدك على أنقاضهم ، ولا حياتك على موتهم ، ولا غناك على فقرهم ، ولا أمنك على خوفهم ، ولا عزك على ذلهم ، إنسان تخشى الله ، لا بدّ لك من معاملة خاصة ، لا بدّ لك من أن تكون متميزاً عن بقية الناس .
آيات من القرآن الكريم تثبت أن الإيمان والتوحيد يورثا التفاؤل :
لذلك الإيمان والتوحيد يورثا التفاؤل ، والشواهد كثيرة جداً ، هذه الآية أوضح آية:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ
أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ
لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا
وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ،
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ ﴾
القرآن الكريم يملأ القلب تفاؤلاً :
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
الآيات كثيرة جداً :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً ﴾
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
هذه آيات في كتاب الله ، هذه وعود رب العالمين ، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين .
المؤمن دائماً متفائل و لا يسمح لشيء أن يسحقه أو يشلّ قدراته :
كيف لا يكون المؤمن متفائلاً وقد يرى أن الله سبحانه وتعالى معه ؟
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
أي الله معهم بالنصر ، والتأييد ، والحفظ ، والتوفيق ، هذه معية خاصة ، لذلك المؤمن قطعاً متفائل ، ولا يسمح لمصيبة أن تسحقه ، ولا يسمح لمصيبة أن تأخذه إلى اليأس ، ولا يسمح لمصيبة أن تشل قدراته ، ولا يسمح لمصيبة أن تجعله سوداوياً متشائماً ، لكن ضعف الإيمان يودي إلى التشاؤم ، ضعف الإيمان يودي إلى السوداوية ، واليأس .
الأستاذ أحمد :
ضعف الإيمان يودي إلى السوداوية واليأس ، ولكن هل من الممكن لإنسان أصابه شيء من اليأس ، أن يصل به يأسه إلى الكفر ؟ هل المسألة عكسية ؟ .
الإنسان يتشاءم بقدر ضعف إيمانه ويتفاءل بقدر قوة إيمانه :
الدكتور راتب :
والله الإنسان مخير ، فإذا أصابته حالة سلبية
عليه أن ينتبه لنفسه ، وأن يذكر ما عند الله من وعود ، وأن يتوب إلى الله
من بعض الذنوب ، التشاؤم حالة مؤلمة جداً ، أحياناً هي عقاب من الله ،
الإنسان حينما يعصي ربه ، أو حينما يقصر ، يشعر بالكآبة ، والكآبة توصله
إلى التشاؤم ، أو حينما لا يوحد ، حينما يرى آلهة في الأرض ، والآلهة
مصالحها متناقضة ، ومتنافسة فيما بينها ، وهو ضاع بين هذه الآلهة ـ
المتوهمة طبعاً ـ أما إذا وحّد الله فالأمر بيد الله .
(( ما شاءَ اللهُ كانَ ، وما لم يشأْ لم يكن ))
وكل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق .إذاً الإنسان يتشاءم بقدر ضعف إيمانه ، ويتفاءل بقدر قوة إيمانه ، وكلما كان الإيمان أقوى كان التفاؤل أقوى .
لذلك عظماء الأرض كانت أمامهم عقبات وعقبات ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لقد أُخِفْتُ في الله ما لم يُخَفْ أَحدٌ ،
وأُوذِيت في الله ما لم يُؤذَ أحد ، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة ،
ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال ))
ومع ذلك كان سيد أهل الأرض .
الأستاذ أحمد :
سيدي الكريم هل من مثال تطبيقي عملي على مسألة التفاؤل حتى نفهمه على أرض الواقع بشكل أوضح ؟.
مثال تطبيقي عملي على مسألة التفاؤل :
الدكتور راتب :
كل أخوتنا يعلمون أن النبي عليه الصلاة
والسلام حينما هاجر وأفلت من يد قريش، وضعت مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو
ميتاً ، كلمة مئة ناقة تعني شيئاً كبيراً ، الناقة تساوي مبلغاً كبيراً
جداً ، مئة ناقة ، ثروة طائلة ، لذلك تهافت الناس على التسابق لأخذ هذه
الجائزة إذا جاؤوا بالنبي حياً أو ميتاً ، النتيجة أن إنساناً اسمه سراقة
طمع بالجائزة ، فركب فرسه ، وعدا إلى طريق الهجرة ، أدرك النبي ، لكن النبي
كما تعلم متفائل ، وموقن بنصر الله عز وجل ، قال له كلمة ـ نحن نرددها
كثيراً ، وقد لا نفهم معناها ، أو قد لا ننتبه إلى خلفياتها ، أو إلى
مدلولاتها ، أو إلى أبعادها ـ قال له : يا سراقة ! كيف بك إذا لبست سواري
كسرى ؟ شيء لا يصدق ! إنسان مطارد ، مهدور دمه ، مئة ناقة لمن يأتي به حياً
أو ميتاً ، لسان حاله يقول : أنا سأصل آمناً ، وسأؤسس دولة ، وسأحارب أقوى
دولتين في العالم، الفرس والروم ، وسوف ينهزم الفرس ، وسوف تأتيني كنوز
فارس ، وسوف تأتي إلى المدينة ، ويا سراقة لك سواري كسرى ، هذا الذي وقع
مستحيل ! .
كأن نخاطب دولة متفلتة ، في طرف الصحراء ، تعاني من مليون مشكلة ، نقول لها : أنت سوف تحتلين البيت الأبيض ، هذه هي النسبية .
لذلك قال له : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري
كسرى ؟ فكان عليه الصلاة والسلام متفائلاً ، لكن تفاؤله حقيقي ، تفاؤل
يعتمد على إيمانه .
التفاؤل من ثمار الإيمان :
وأنا أقول الآن بدافع من الإيمان : لا تستطيع جهة في الأرض مهما تكن قوية ، مهما تكن تملك الأسلحة الفتاكة ، والإعلام ، والاقتصاد ، لا يمكن للقطب الأوحد في الأرض أن يفسد على الله هدايته لخلقه ، مستحيل وألف ألف ألف مستحيل . أنت أب وقوي ، وعالم ، وغني ، لك أولاد ، هدفك الأول أن يتعلم أولادك ، وأن ينالوا شهادات عليا ، أحد هؤلاء الأولاد يمنع أخوته من الذهاب إلى الامتحان ، والأب ينظر إليه ، ويراقبه ، والأمر بيد الأب ، وكل شيء بيده ، أيعقل هذا ؟! أيعقل أن يسمح لواحد من أولاده أن يفسد على الأب خطته في تربية أولاده ؟! مستحيل . لكن الله يسمح للأقوياء أن يهددوا ، ليمتحن إيمان المؤمنين ، يسمح للأقوياء أن يعلنوا عن خططهم الجهنمية ليمتحن إيمان المؤمنين .
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾
لذلك أنا مؤمن أن التفاؤل من خصائص المؤمنين ، بل إن التفاؤل من ثمار الإيمان ، وإن التشاؤم واليأس والسوداوية والإحباط من ثمار الشرك أولاً ، والمعصية ثانية .
الأستاذ أحمد :
هذا مثال من السيرة ، أما مثال تطبيقي ، فما يحضركم في التفاؤل ؟.
القصص في القرآن الكريم وقعت وأرادها الله أن تكون قانوناً وحافزاً لنا :
الدكتور راتب :
هناك شعور أنك حينما تتصل بالله ، ترى أن القوى بيديه ، وأن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر .
إنسان وجد نفسه في بطن حوت ، هل هناك حالة أصعب من هذه الحالة ؟
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلة قليلة وراءها جيش ضخم ، كثير العَدد ، والعُدد ، له قيادة حاقدة ، وطاغية ، وظالمة ، والبحر أمامنا ، الأمل صفر ، أعتقد أن مليون إنسان كانوا في مثل هذا الموقف يوقنون بالهلاك ، يتشاءمون ، ييئسون :
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
فهذه القصص لنا ، هي وقعت وأرادها الله أن تكون قانوناً لنا ، وحافزاً إلينا .الأستاذ أحمد :
الآن ما الفرق بين التفاؤل ، والتشاؤم ؟ .
الفرق بين التفاؤل والتشاؤم :
الدكتور راتب :
هناك خرافات كانت سائدة في العصر الجاهلي ،
الإنسان إذا طار عن يساره طير يتشاءم ، يتوقع الهلاك ، والمصائب ، وإن طار
الطير عن يمينه يتفاءل ، فالله عز وجل ردّ على هؤلاء ، وقال :
﴿ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾
سبب تفاؤلك منك ، سبب تشاؤمك منك ، أي أنت حينما تستقيم ، وتؤدي الحقوق تفاءل ، لأن الله يعدك بالتوفيق ، وحين تبني مجدك على أنقاض الناس ، تأخذ ما ليس لك ، تعتدي على أعراضهم ، يلقي الله في قلب هذا العاصي التشاؤم والخوف والقلق ، فالتفاؤل والتشاؤم لا يأتي من جهة بعيدة عنك ، يأتي منك ، فأنا معي أسباب التفاؤل هي طاعتي لله ومعي أسباب التشاؤم هي التقصير والمعصية ، فكل إنسان يعصي الله يصاب بالكآبة أولاً ، ثم بالسوداوية ، والتشاؤم ، واليأس ، وهناك يأس خاطئ .
طبعاً نهاية اليأس الانتحار ، والمؤمن مستحيل وألف ألف مستحيل أن يقدم على هذه المرحلة ، لأن الله موجود ، وقد يخلق الله من الضعف قوة ، ومن الجهل علماً ، ومن عدم الحكمة نجاحاً وتفوقاً ، والأمثلة كثيرة جداً .
الأستاذ أحمد :
عندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأل فعرفه بالكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ، كيف تكون الكلمة الصالحة من الفأل ؟.
إحساس الإنسان بالضعف يجعله يلجأ إلى الله عز وجل :
الدكتور راتب :
أي أنت حينما ترى مريضاً لا ينبغي أن تقول له :
مرضك قاتل ولا علاج له ، ينبغي أن تنفس له في الأجل ، أحياناً الله عز وجل
يمنح الشفاء الذاتي من دون أسباب علمية ، هناك بحث في الطب اسمه الشفاء
الذاتي ، آلاف الحالات ، مرض مستعص ، مرض عضال، يأتي معه شفاء ذاتي .
فلذلك أخطر شيء في الحياة أن تهزم من الداخل ،
أن تقع في اليأس ، فأحياناً أنت ضعيف هذا سرّ قوتك ، إحساسك بالضعف يجعلك
تلجأ إلى الله .
لذلك قالوا : الله عز وجل يستجيب لعباده إذا دعوه ، ولكن وفق شروط .
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
كأن الله سبحانه وتعالى وضع ثلاثة شروط ثلاثة لاستجابة الدعاء ، أن تؤمن ، وأن تستجيب ، وأن تكون في دعائك مخلصاً ،
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ـ أي مخلصاً ـ فَلْيَسْتَجِيبُوا ـ
يطيعوني ـ لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
لكن العلماء استثنوا إنسانين ، استثنوا
المظلوم واستثنوا المضطر ، فالمظلوم يستجيب الله له ، لا لأهليته بالدعاء ،
ولكن بعدل الله ، والمضطر يستجيب الله له ، لا لأهليته في الدعاء ، ولكن
برحمة الله .فالله عز وجل موجود ، وهو ينتظر دعاءنا ، فقد قال الله عز وجل :
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾
الدعاء علاج التشاؤم :
ماذا يعني الدعاء ؟ يعني الدعاء أنه مستحيل على الإنسان أن يدعو جهة ليس مؤمناً بوجودها ، وألا يعد مجنوناً ، فما دمت تقول : يا رب ، أنت موقن أن الله موجود ، وموقن أيضاً أن الله يسمعك ، وموقن أيضاً أن الله قادر على تلبية طلبك ، وموقن أيضاً أن الله يحب أن يلبك ، موقن بوجوده ، وسمعه ، وعلمه ، وقدرته ، ومحبته لك . لذلك الذي يدعو الله مؤمن ، من لا يدعُني أغضب عليه ، إن الله يحب الملحين في الدعاء ، إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع ، إن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها ، إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح طعامه . فالدعاء مرغوب عند الله عز وجل ، وما أمرك أن تدعو الله إلا ليستجيب لك ، وما أمرك أن تستغفره إلا ليغفر لك ، وما أمرك أن تتوب إليه إلا ليتوب عليك ، إذاً الدعاء هو الذي يخرج الإنسان من التشاؤم .
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
والله عز وجل يقول :
(( إذا قال العبد : يا رب وهو راكع ، قال الله له :
لبيك يا عبدي ، فإذا قال : يا رب وهو ساجد ، قال الله له : لبيك يا عبدي ،
فإذا قال : يا رب وهو عاصٍ قال الله له : لبيك ثم لبيك ثم لبيك ))
إذاً مع الدعاء ليس هناك تشاؤماً ، مع التوجه إلى الله ليس هناك تشاؤماً ، والتشاؤم علاجه الدعاء .
الأستاذ أحمد :
التفاؤل هو حسن الظن بالله عز وجل ، فمن فوائد التفاؤل عند الله عز وجل ـ لا بد من هذا التفاؤل بثمرة ـ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما هي فوائد وثمرات التفاؤل ؟.
فوائد وثمرات التفاؤل :
الدكتور راتب :
الحقيقة التفاؤل حينما يأتي بعده استجابة
للدعاء يقوي الإيمان ، والتفاؤل يهب الإنسان طاعة سيد الأنام ، النبي علمنا
التفاؤل ، والتفاؤل يجعلك إنساناً محبباً ، هناك إنسان أينما جلس يخوف
الناس من الحروب ، صار هذا الإنسان مربوطاً بالشر ، صار وجوده ثقيلاً،هناك
أشخاص سوداويون ، إذا جلس يعطيك الصورة القاتمة للمستقبل ، يعطيك ضعف الأمل
بإنجاز ما نعاني منه ، المتفائل محبوب ، والمتفائل استجاب لقول النبي
الكريم في محبته للتفاؤل ، والمتفائل ازداد إيمانه قوة ، والمتفائل ازداد
مكانة عند الناس .الأستاذ أحمد : إذاً هل من فوائد الخُلق ـ خلق التفاؤل ـ أنه يجلب السعادة إلى النفس ، وإلى القلب ، وأنه يقوي من العزيمة ، ويحث النفس على العمل ؟.
المؤمن يكافأ بالتفاؤل وغير المؤمن يعاقب بالتشاؤم :
الدكتور راتب :
الحقيقة التفاؤل سرّ السعادة ، مثلاً ، أضرب
لك هذا المثل : إنسان سيسافر إلى بلد بمركبته وهو يعلم أن العجلة
الاحتياطية ليست صالحة ، الآن يركب ويمشي ، يشعر في أثناء سيره بقلق شديد ،
لأنه لو تعطلت إحدى العجلات توقف ، إذا هناك خوف ، أو تشاؤم ، أو سوداوية
من هذه الرحلة ، لو أن ابنه أصلح له العجلة ولم يخبره معنى ذلك أنه شعر
بأسباب القلق ، والخوف ، والتشاؤم ، وهي في الحقيقة الواقعية ليست موجودة
معه ، عجلة احتياط صالحة ، حالة معاكسة ، لو أنه يظن أو يعتقد أن العجلة
الاحتياط صالحة لكنها في الحقيقة معطوبة ، وسار إلى بلد بعيد ، وكان في
راحة نفسية ، هو شعر بالأمن والتفاؤل مع أنه لا يملك أسباب التفاؤل .
معنى ذلك أن الله قادر أن يخلق التشاؤم واليأس من دون أسباب مادية ، وأن يخلق الأمن والطمأنينة من دون أسباب مادية .
إذاً المؤمن يكافأ بالتفاؤل ، وغير المؤمن مع
أنه يملك أسباب القوة ، والأموال ، وكل شيء ، هو قلق ، لذلك يكون التفاؤل
أحياناً مكافأة للمؤمن ، ويكون التشاؤم معاقبة للمسيء ، فقد تكون متفائلاً
ولا تملك أسباب التفاؤل ، وقد تكون متشائماً ومعك أسباب التفاؤل .
فالعبرة أن الله سبحانه وتعالى بيده قلوب
العباد ، يقلبها كيف يشاء ، وفي الأعمّ الأغلب يجعل هذا القلب متفائلاً إذا
كان منيباً لله عز وجل ، ويجعله أيضاً متشائماً إذا كان بعيداً عن الله عز
وجل .
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
نشكركم أستاذي الكريم على هذه الإضاءات ، وهذه
اللمحات التي ألمحتم فيها إلى هذا الخُلق ، إلى لقاء آخر أعزائي وأخواتي
المشاهدات والمشاهدون ، نستودعكم الله على أمل اللقاء بكم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
والحمد لله رب العالمين
ندوات تلفزيونية - قناة اقرأ - موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرس (07-28 ) : التفاؤل والتشاؤم
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-02-07