25‏/01‏/2016

المحور الثالث: الهندسة المالية في إدارة المخاطر بالمؤسسات المالية الإسلامية.


              إن استخدامات الهندسة المالية الإسلامية في إدارة المخاطر و التحوط منها لا يمكن حصرها بسبب تشعّبها ثم لأنها لا تتقيّد بقيود إلا تلك التي أشرنا إليها عندما تطرقنا لأسس الهندسة المالية الإسلامية. و لكن يمكننا عموماً تقسيم استخدامات الهندسة المالية الإسلامية في إدارة المخاطر إلى قسمين، الأول منها يستخدم عقود تقليدية[1] إسلامية، أي عقود مسماة في الفقه الإسلامي، و الثاني يستخدم العقود المستحدثة (مثل المشتقات الإسلامية و التوريق...) و هي التي ما يزال النقاش دائراً حول مدى مشروعيتها أصلاً...
أولاً: إدارة المخاطر و التحوط منها باستخدام عقود مسماة في الفقه الإسلامي.
1-               البيع الحال. و ذلك بشراء جـميع الاحتياجات المستقبلية حالاً و دفع قيمتها نقداً و استلامها و تخزينها. إن هذه الطريقة قد لا تكون ممكنة أو تكون ممكنة بتكلفة مرتفعة و ذلك لأنه:[2]
ü     قد لا تتوفر جميع الاحتياجات حالاً و خاصة المنتجات الموسمية.
ü     قد لا تتوفر السيولة لشراء الاحتياجات حالاً
ü  هناك تكاليف إضافية يتحملها المشتري مثل تكلفة التخزين للسلع و تكلفة الفرصة البديلة لثمن السلعة المخزنة التي سوف لن يحتاجها إلا في المستقبل.
2-                     بيع السلم. و هنا يتم شراء احتياجاته المستقبلية و لكن بثمن حال، و بالتالي يحقق بيع السّلم التحوط المطلوب بتثبيت ثمن الشراء المستقبلي، و لكن فقط لمن يستطيع أن يقوم بسد حاجة البائع للتمويل.[3]
ثانياً: استخدام الهندسة المالية الإسلامية في التحوط و إدارة المخاطر بالمؤسسات المالية الإسلامية.
1.            بيع دين السلم (أو التوريق الإسلامي)، يعتبر بيع دين السـلم قبل قبضه من القضـايـا التي تثير خلافـات فقهية. فقد أجازه الإمام مـالك رحمه الله إذا كان من غير الطعام، و منعه سائر الأئمة. قد يتبنى البعض رأي الإمام مـالك و يطرح فكرة تسييل (توريق) الديـون السلعية على هذا الأسـاس. بل و من المـمكن تسيـيل الديـون السلعية بصـورة يوافـق عليها جميع الأئمة (فالهنـدسة المـالية الإسـلامية كمـا رأينـا من قبل تهدف إلى الابتعـاد قدر الإمكـان عن الخلاف الفقهي) دون فـارق كبير بالنسبة للمنـتج. فيمكن للدائن (حامل سند دين السلم) أن يبيع سلماً موازٍ للأول، بنفس المواصفات و الشـروط و يمكن أن يضـاف إلى ذلك اعتبار الدين رهناً للسلم الموازي.[4]فإذا صح اعتبار السلم الأول رهناً للسلم الثاني صار الدينان متقاربين في درجة المخاطرة و متماثلين في الخصائص الأخرى.[5]
2.          التورق و إدارة المخاطر: التورق هو صيغة للحصول على السيولة[6]، و هو أن يشتري شخص السلعة إلى أجل، ليبيعها و يأخذ ثمنها لينتفع به، و يتوسع فيه، كأن يحتاج إلى نقود، فيذهب إلى التاجر و يشتري منه ما يساوي مائة (100) بمائة وخمسين (150) على أجل، ليسد به حاجته. و هو بيع جائز لا مانع منه لأن البائع الذي كان مشترياً باع السلعة إلى شخص آخر غير البائع الأول.[7]  و هو مثال لهندسة مالية غير كفؤة، إذ يتحمل المشتري تكاليف القبض و الحيازة ثم خسارة البيع الفوري، و هي جميعاً تكاليف إضافية لا تفيد المتورق بشيء.[8] لكن يوجد في الفقه الإسلامي ما يغني عن هذه الصيغة، بصورة أكثر كفاءة و أكثر مشروعية، و ذلك من خلال عقد السّلَم. حيث يقبض المحتـاج للسيولة النقد مقدَّماً مقابل سلعة في الذمة مؤجلة. و إذا كان الدائن تاجراًَ كان السَّلَم محقِّقاً لمصلحة الطرفين: البائع (الراغب في السيـولة) ينتفع من خلال الحصول على النقد دون إجراءات إضافية، و المشتري (التاجر)، ينتفع من خلال ضمان حصوله على سلعة تدخل في نطاق تجارته، بذلك يمكن للتاجر توظيف فائض السيولة لديه في مجال الائتمان. و إذا كان المشتري ممولاً، فيمكنه استخدام السلعة في البيع الآجل، و بذلك تكتمل الدورة التجارية للممول. فيشتري السلعة سلماً، ثم بعد قبضها يبيعها بالأجل. و هذا سيعطي الممول فرصة أفضل لتنويع محفـظته الاستثمـارية، فبدلاً من أن تكون جميعها ديوناً نقدية، يكون بعضها نقديـاً و بعضها سلعياً. و التنويع كما هو معلوم من أفضل الطرق لتحييد المخـاطرة. فإذا ارتفعت أسعار السلعة محل المتاجرة، كان ذلك خسـارة في ديون النقد، و لكنه يمثّل ربحاً في ديون السّلم، و العكس بالعكس. فالمحصِّلة هي تخفيض المخاطرة بدرجة عالية. و بناءً على توقُّعات السوق يمكن للممول أن يوزِّع محفظته بين السلم و البيع الآجل بما يحقق أفضل عائد بأقل مخاطرة.[9]
3.          إدارة مخطر عدم السداد أو المماطلة في الدفع في عقود المرابحة للآمر بالشراء، و يقترح بهذا الخصوص أ.د أحمد بن علي السالوس الحل التالي:
-       عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع، و علم المصرف بهذا، يمكنه آن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين.
-       اللجوء إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعاً للزمن الذي يتأجل إليه الدفع.[10]

     هذا مع الإشارة في الأخير إلى أن هناك اعتقادًا لدى الكثير من المنظرين في التمويل و الصيرفة الإسلامية إلى أن المخاطر التي تواجه المصارف و المؤسسات المالية الإسلامية تزداد بشكل كبير نتيجة الفجوة ما بين النظرية و التطبيق...هذا ما يعني أن واحدة من أهم طرق تقليل مخاطر المصارف المؤسسات المالية الإسلامية هو الالتزام التام بأحكام فقه المعاملات المالية في كل تعاملاتها.
جامعة الزيتونة  المؤتمر العلمي الدولي السنوي السابع



[1]  المقصود بالعقود التقليدية هنا عقود مستخدمة قديماً أي عقود مسماة في الفقه الإسلامي.
[2]  عبد الرحيم عبد الحميد الساعاتي، "نحو مشتقات مالية إسلامية لإدارة المخاطر التجارية"، مجلة الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، المملكة العربية السعودية، المجلد 11، 1999، ص67-68.
[3]  و لذلك يسمي الفقهاء هذا البيع ببيع المحاويج.
[4]  و قد تعرض الفقهاء لرهن الدين، و البعض قد أجازه...
[5]  د.سامي السويلم، "صناعة الهندسة المالية: نظرات في المنهج الإسلامي"، مـرجع سـابق، ص22.
[6]  إن الهدف من اللجوء للتورق هو الحصول على التمويل النقدي، إما لعدم توافر التمويل عن طريق الشراء الآجل للسلعة أو للحاجة إلى النقد بذاته لتسديد دين حل ، أو لتعدد الحاجات وتنوعها مما يجعل التمويل النقدي أكثر ملاءمة من تمويلها عن طريق الشراء الآجل، مع ما في توحيد الجهة الدائنة من ملاءمة وسهولة .
[7]  أ.د. وهبة الزحيلي، "أحكام المعاملات المالية المعاصرة"، مرجع سابق، ص 53.
[8]  و هذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للقول بمنع التورق، إذ يمتنع، يحرم الله الاقتراض بفائدة ثم يجيزه بطريق أكثر كلفة و مشقة، "فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى و تبيح ما هو أدنى منه".
[9]  د.إبراهيم سامي السويلم، "صناعة الهندسة المالية: نظرات في المنهج الإسلامي"، مرجع سابق، ص19.
[10]  و إن كانت هذه الطريقة اقرب إلى إعادة الجدولة للديون الربوية.