09‏/05‏/2022

السياسة المالية ودورها في تحقيق التوازن الاقتصادي 1-3

 

المبحث الثاني: مفهوم السياسة المالية وتطورها

1- تعريف السياسة المالية:

       اشتق مصطلح السياسة المالية أساساً من الكلمة الفرنسية "Fisc" و تعني حافظة النقود أو الخزانة[1].

و كانت السياسة المالية يُراد في معناها الأصلي كلاً من المالية العامة و ميزانية الدولة، و تعزز استخدام هذا المصطلح على نطاق واسع أكاديمي بنشر كتاب "السياسة المالية و دورات الأعمال" للبروفيسور Alain. H. HANSEN ، و يعكس مفهوم السياسة المالية تطلعات و أهداف المجتمع الذي تعمل فيه ، فقد استهدف المجتمع قديماً إشباع الحاجات العامة و تمويلها من موارد الموازنة العامة و من ثمَّ ركز الاقتصاديون جُل اهتمامهم على مبادئ الموازنة العامة و ضمان توازنها ،  و لكن نظراً لأنَّ اختيار الحاجات العامة المطلوب إشباعها يتطلب من المسؤولين اتخاذ قرارات ، و أن هذه الأخيرة قد تحدث آثاراً متعارضة أحياناً فتثير مشكلة كيفية التوفيق بين هذه الأهداف المتعارضة و تحقيق فعاليتها على نحو مرغوب ، و في ضوء تلك التوفيقات و التوازنات يتكون أساس و مفهوم السياسة المالية.

يزخر الفكر المالي بتعريفات مختلفة لمفهوم السياسة المالية نسوق بعضها على سبيل المثال و ليس على سبيل الحصر.

- فنعرف السياسة المالية بأنَّها مجموعة السياسات المتعلقة بالإيرادات العامة و النفقات العامة بقصد تحقيق أهداف محددة[2].

- بينما يعرفها البعض بأنَّها سياسة استخدام أدوات المالية العامة من برامج الإنفاق و الإيرادات العامة لتحريك متغيرات الاقتصاد الكلي مثل الناتج القومي، العمالة، الادخار، الاستثمار، و ذلك من أجل تحقيق الآثار المرغوبة و تجنب الآثار غير المرغوبة فيها على كل من الدخل و الناتج القوميين و مستوى العمالة و غيرها من المتغيرات الاقتصادية[3].

- كما تعرف بأنَّها مجموعة الأهداف و التوجهات و الإجراءات و النشاطات التي تتبناها الدولة للتأثير في الاقتصاد القومي و المجتمع بهدف المحافظة على استقراره العام و تنميته و معالجة مشاكله و مواجهة كافة الظروف المتغيرة.

- هي ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يتعلق بتحقيق إيرادات الدولة عن طريق الضرائب و غيرها من الوسائل و ذلك بتقرير مستوى و نمط إنفاق هذه الإيرادات[4].

و هناك تعريف آخر لا يخرج عن مضمون التعريفات السابقة، يوضح أن السياسة المالية هي تلك السياسات و الإجراءات المدروسة و المتعمدة المتصلة بمستوى و نمط الإنفاق الذي تقوم به الحكومة من ناحية و بمستوى و هيكل الإيرادات التي تحصل عليها من ناحية أخرى[5].

       و من خلال التعريفات السابقة، نستطيع القول أنها جميعا تتفق في أن السياسة المالية هي أداة الدولة للتأثير في النشاط الاقتصادي بغية تحقيق الأهداف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي تسعى إلى تحقيقها، بمعنى أن السياسة المالية أسلوب أو برنامج عمل مالي تتبعها الدولة عن طريق استخدام الإيرادات   و النفقات العامة، علاوة على القروض العامة لتحقيق أهداف معينة في طليعتها النهوض بالاقتصاد الوطني و دفع عجلة التنمية و إشاعة الاستقرار الاقتصادي   و تحقيق العدالة الاجتماعية و إتاحة الفرص المتكافئة لجمهور المواطنين بالتقريب بين طبقات المجتمع و الإقلال من التفاوت بين الأفراد في توزع الدخول و الثروات.

و مما سبق يمكن القول أن السياسة المالية هي السياسة التي بفضلها تستعمل الحكومة برامج نفقاتها و إيراداتها العامة و التي تنتظم في الموازنة العامة لإحداث آثار مرغوبة و تجنب الآثار غير المرغوبة على الدخل و الإنتاج و التوظيف أي تنمية و استقرار الاقتصاد الوطني و معالجة مشاكله و مواجهة كافة الظروف المتغيرة.

 

 

2- تطور السياسة المالية

لقد شهد علم المالية تطوراً كبيرا في فكرته و أهدافه و وسائله تبعاً للتطورات التي تعاقبت على المجتمعات و تطور دور الدولة من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة، و هو تطور لم يقتصر أثره على علم المالية فقط ، بل إنه قد انعكس على مفهوم النظام المالي فنقله من السياسة المالية المحايدة إلى السياسة المتدخلة ، حيث تُعتبر السياسة المالية المرآة العاكسة لدور الدولة في كل عصر من العصور ، فحينما غابت الدولة كسلطة منظمة للمجتمع ضعف دور السياسة المالية ، و حينما ظهرت الدولة كسلطة منظمة و لكن دورها كان محدوداً تحت تأثير الإيديولوجيات السائدة آنذاك فكان دور السياسة المالية هو الآخر محدوداً.

و ظل الأمر كذلك حتى طرأت تغيرات متعددة اقتصادية و اجتماعية حول دور الدولة و ضرورة تدخلها في كافة مجالات الحياة، و من هنا ظهر دور السياسة المالية مؤثراً في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و أن دور السياسة المالية يختلف من دولة إلى أخرى تبعاً لاختلاف طبيعة النظام الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي في كل دولة من الدول.

و لقد مر الفكر المالي في تطوره بحثاً عن المقصود بالسياسة المالية بثلاث مراحل الأول منها يتعلق بالعصور القديمة قبل الكلاسيك، و الثانية تتصل بأفكار الاقتصاديين التقليديين عن المالية المحايدة، أما المرحلة الثالثة تتعلق بالفكر الحديث عن السياسة المالية المتدخلة سواء في إطار ما يسمى بالمالية المعوضة (في الاقتصاديات الرأسمالية) أو التخطيط المالي (في الاقتصاديات الاشتراكية). وذلك على النحو التالي

 

2-1-السياسة المالية في المجتمعات القديمة  

       كانت تعكس السياسة المالية في العصور القديمة غياب السلطات المنظمة للمجتمع و غياب أي تأثير لها.

السياسة المالية ما قبل الفكر الكلاسيكي (التجاريين و الطبيعيين) "

تتميز تلك المرحلة من مراحل الفكر الاقتصادي بعدم وجود إطار شامل و منظم و محدد المعالم حول السياسة المالية للدولة و تأثير على النشاط الاقتصادي، و نظراً لارتباط الأفكار المالية لدى المفكرين بتطور دور الدولة و مدى تدخلها في النشاط الاقتصادي، فنجد أن أفلاطون و أرسطو قد اهتما بضرورة تدخل الدولة مباشرة في مراقبة الأسعار و منع الاحتكار و تحقيق عدالة التوزيع فضلاً عن تحديد مجالات الإنفاق العام (التعليم، الأمن، الحروب) هذا فضلاً عن الإنفاق التمويلي (الإعانات) و التي أقرها كأخذ بنود الإنفاق العام في حين اعتبرها أرسطو عملية تتم بين الأفراد بدافع الحب و الصداقة و بدون تدخل من جانب الدولة و لم يتعرض كل من أفلاطون و أرسطو لموضوع الضرائب أو الرسوم[6].

و قد أقر توماس الأكويني بضرورة تدخل الحكومة بصورة مباشرة في مراقبة الأسعار و وضع حدود دنيا و عليا لها ، و منع الاحتكار و كذلك الحد من أي تصرفات شخصية قد تتعارض مع الصالح العام ، و هذا ما رفضه أو رسم (ORASM) ، إذ لا يجوز لجوء الحكومات لمصادرة الملكيات و إدارتها بنفسها بدعوى الصالح العام ، كما أضاف إن كان للدولة دوراً في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية فإن أحد عناصر تمويل هذه الدول هي الضرائب ، التي يجب أن تتصف بالعدالة و اليقين و السهولة و الاقتصاد. و هو بهذا الشكل أول من وضع معايير فرض الضرائب في العالم الغربي[7].

و مع الاتجاه إلى تعظيم دور الدولة في إدارة الشؤون التجارية و الاقتصادية –في عصر التجاريين- اتجه أنظار المفكرين إلى دور الضرائب في النشاط الاقتصادي إذ أوضح توماس من (Thomas Min)  خطورة الضرائب نظراً لإمكانية تسببها في عدم الاستقرار الاقتصادي ، بل و تدهور في النشاط الاقتصادي ، لذلك يعد هذا المصدر غير أساسي لتمويل نشاط الدولة و زيادة قوتها بل يجب أن تعتمد في التمويل على زيادة قدرتها على التصدير و تحقيق فوائض في موازين المدفوعات باعتبار الدولة المحتكر للتجارة الخارجية[8].

و يلقى هذا الفكر قبولاً عند ويليام بيتي (W.PETTY) حيث يرى أن فرض الضرائب لا يؤدي إلى تدهور النشاط الاقتصادي ، بل على العكس ، يمكن أن تؤدي إلى ازدهاره ، و ذلك إذا كانت تنفق في الخدمات العامة التي يستفيد منها المجتمع ، و أوضح ضرورة عدم الإفراط في فرض الضرائب لأنَّ ذلك سيؤدي إلى سحب أموال من دائرة النشاط الاقتصادي ، كما نادى ويليام بيتي بعدم الإسراف في الإنفاق العام و ترشيده و قصر دور الدولة على تقديم الخدمات الرئيسية (الإدارة ، العدل ، الدفاع) مع إمكانية تخصيص جزء من الإنفاق كدعم للمتعطلين ، و تعد هذه أول محاولة مبكرة في الفكر الغربي لوضع نظرية في السياسة المالية للدولة[9].

و في إطار فلسفة الفيزيوقراط (PHISOCRATES) الرافضة لأفكار التجاريين و التي تنادي بضرورة ترك النظام الاقتصادي حراً حتى يمكن للقوانين الطبيعية أن تحركه حركة منتظمة و توجهه نحو التوازن الطبيعي[10] ، أكد فرانسوا كيناي (FRANCOIS Quesnay) باعتياره من أهم أقطاب تلك المدرسة على وجوب تخلي الدولة عن تدخلها في النشاط الاقتصادي ، و ضرورة قصر الضرائب على الناتج الصافي لملكية الأراضي و ليس على أجور الأفراد ة لا على المنتج ، إذ أن ذلك سيؤدي لزيادة تكاليف الإنتاج ، و من ثمَّ الأسعار و بالتالي الإضرار بالنشاط التجاري و الثروة ، و من ثمَّ يجب توحيد الضرائب كلها في ضريبة واحدة على الريوع ، كما أكد على ضرورة إعادة ضخ ما يتم جمعه من ضرائب في حركة النشاط الاقتصادي مرة أخرى ، و ذلك حتى لا يؤثر هذا الاقتطاع سلباً على دورة النشاط الاقتصادي ، و لم يضف الطبيعيين أي إسهامات أخرى في مجال السياسة المالية[11].

ممّا سبق يتضح أن دور الدولة الاقتصادي و الاجتماعي قد حصر في أقل الحدود الممكنة الأمر الذي أفقد السياسة المالية كل أثر فعال على الاقتصاد الوطني.

2-2-السياسة المالية في الفكر الكلاسيكي

لقد وجه الاقتصاديون التقليديون جانباً لا باس به من اهتماماتهم لدراسة موضوع المالية العامة، متأثرين في ذلك بفلسفة الحرية الاقتصادية، التي تحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية و يجب أن يُقتصر دورها على الدفاع و الحفاظ على الأمن و العدالة بالدرجة الأولى، فهي كما شبهها آدم سميث رجل الحراسة الليلي[12].

فقد كانت النظرية المالية التقليدية نتيجة منطقية تعكس فلسفة المذهب الاقتصادي التقليدي الذي يقوم على قانون ساي للأسواق ، و مدلول اليد الخفية لآدم سميث و بيئة تسود فيها كافة مقومات الحرية الاقتصادية و المنافسة التامة ، فقانون ساي للأسواق ، و الذي عادة ما يُصاغ في العبارة الشهيرة "العرض يخلق الطلب المساوي له"[13] و جوهر قانون ساي هو الاعتقاد بأن النظام الاقتصادي الحر يخلو من العوامل الذاتية ما يضمن له دائماً ذلك المستوى من الدخل الوطني الذي يتم عنده استغلال كل طاقته الإنتاجية ، بمعنى أن النظم الرأسمالية تتجه تلقائياً إلى التوازن المستقر عند مستوى التشغيل الكامل لموارد المجتمع الإنتاجية ، و تفسير ذلك أن عبارة قانون ساي تؤكد علاقة سببية مباشرة بين الإنتاج و الإنفاق ، فأي زيادة في الإنتاج (العرض) سوف تخلق زيادة معادلة لها في الدخل النقدي ، و لما كانت النقود في تفكيرهم وسيط للتبادل ليس إلا ، و بالتالي ليس هناك مبرر لاحتفاظ الأفراد بها ، فأي زيادة في الدخول النقدية سوف تتحول إلى زيادة معادلة في الإنفاق على السلع و الخدمات ، و بالتالي كل زيادة في الإنتاج سوف تخلق تلقائياً زيادة معادلة لها في الإنفاق لشراء هذا الإنتاج الجديد[14].

و لكي تزيد مستويات الإنتاج و الدخل و العمالة يقتضي ذلك زيادة الإنتاج بعض الشيء ، عن الطلب القائم في السوق و عندئذ سيخلق العرض الجديد المتولد عن زيادة الإنتاج طلبه و هكذا يؤكد التقليديون أنه إذا ترك القطاع الخاص حراً في بيئة تتوافر فيها كل الضمانات للحرية الاقتصادية ، فإنه يسعى لإنتاج حاجاته و رغباته و تعظيم ثروته و تحقيق مصلحته ، و بالتالي يستمر في الإنتاج ، و لا يتوقف إلا عند مستوى العمالة الكاملة ، حيث تصبح في هذه الحالة كافة الموارد الاقتصادية المتاحة موظفة توظيفاً كاملاً[15] ، كما أن الاقتصاديين الكلاسيك أمثال "دافيد ريكاردو" ، و "جون ستويرت ميل" و "ألفرد مارشال" يؤمنون بميل الادخار و الاستثمار إلى التعادل عن طريق تغيرات سعر الفائدة ، و عند مستوى التشغيل الكامل دائماً ، و لكي نضمن هذه النتيجة ، فلابد من الحيلولة دون تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ، لأن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي سيعوق القطاع الخاص عن التصرف بحرية تامة ، و سيحرم القطاع الخاص من رؤوس الأموال اللازمة لزيادة الإنتاج و تنمية الاقتصاد الوطني ، و كل تدخل من قبل الدولة ، إخلال التوازن الطبيعي للقوى التلقائية و تحويل لجزء من موارد المجتمع عن استخداماتها المثلى التي لا يحققها إلا القطاع الخاص ، و من ثم يخلص الفكر الكلاسيكي إلى قصر وظيفة الدولة بصفة أساسية على خدمات الأمن و الدفاع و العدالة ، و بذلك يتحدد دور السياسة المالية في ظل النظرية التقليدية في توفير الإيرادات اللازمة لتغطية هذه الخدمات دون أن يكون لها أي غرض اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي[16] ، فتغير الإنفاق الحكومي أو الضرائب بالزيادة أو بالنقص ليس لهما أي تأثير يذكر على الطلب الكلي و الناتج و المستوى العام للأسعار و ذلك نظراً لأثر الإزاحة (Crowding out) ، إذ أن زيادة الإنفاق الممول عن طريق سندات يؤدي إلى رفع سعر الفائدة بما يكفي لخفض مساوياً للاستثمار الخاص و الاستهلاك الخاص (لزيادة الادخار) ، و بالتالي عدم تغير الطلب الكلي[17] للتغير في الإنفاق الحكومي أو الضرائب أثر فهو أثر غير مستقل نابع من أسلوب تمويل الزيادة و إن كان في الإنفاق أو الخفض في الضرائب.

و يترتب على تحديد دور الدولة و تكييف نفقاتها و إيراداتها على نحو ما تقدم ، قيام السياسة المالية التقليدية على عدة قواعد مالية أهمها[18] : حياد السياسة المالية في كافة الأنشطة الاقتصادية للدولة بمعنى أن يكون تدخل الدولة حياديا بحيث لا يؤثر النشاط الاقتصادي للدولة على تصرفات الأفراد و القطاع الخاص بأي شكل من الأشكال ، و وجوب ضغط الميزانية ، بحيث لا تمثل النفقات العامة بنسبة ضئيلة من الدخل القومي ، و اعتماد الإيرادات العامة أساساً على الضرائب  و تقدير هذه الإيرادات تبعاً للنفقات العامة التي يسمح بها دور الدولة و ضرورة توازن الميزانية سنوياً ، أي تحقيق المساواة بين جانبي النفقات العامة و الإيرادات العامة ، و يتم هذا بإجراء تقدير دقيق لأقل حجم ممكن من الإنفاق العام على هذه الوجوه الأربعة التقليدية السابقة الذكر ، و بالتالي تغطية هذه النفقات بإجراء تقدير للإيرادات العامة ، الضرائب ، الرسوم ، و دخل الدومين دون اللجوء إلى القروض أو زيادة الإصدار النقدي ، و ظلت هذه الأسس للسياسة المالية سائدة ، و ظل الاعتقاد بسلامتها إلى حين تعرضت اقتصاديات الدول التي اعتنقت الأفكار الكلاسيكية للعديد من الهزات و الهزمات بين الحين و الآخر ، و عندما زادت حدة هذه الأزمات بصفة خاصة في سنوات العشرينات و الثلاثينات من القرن الماضي  و خلقت هذه الأزمات ظروفاً جديدة أثبتت بما لا يدعو مجالاً للشك أن تلقائية توازن الاقتصاد القومي ليس أمراً واقعاً ، و في أثناء هذه الأزمات تعرضت الاقتصاديات الرأسمالية ، لقدر من البطالة في الموارد المادية و الإنسانية على السواء لا يمكن التغاضي عنها. و قد زلزلت هذه الأزمات أسس الاعتقاد في تلقائية التوازن باليد الخفية[19].

و هكذا نجد أن التمسك بالأفكار الكلاسيكية بصفة عامة بأسس السياسة المالية على وجه الخصوص تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية و ازدياد حدتها و من ثمَّ إلحاق أبلغ الضرر بالاقتصاد الوطني ، كما أن الظروف التي تعرضت لها اقتصاديات الدول الرأسمالية قد هيأت المجال لظهور الأفكار الكينزية و لسياسة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

2-3- السياسة المالية في الفكر الكينزي

بعد أن سادت النظرية الكلاسيكية لفترة طويلة من الزمن و ما أملته على السياسة المالية من دور محدود و قاصر، فإن التطورات الكبيرة السياسية و الاقتصادية التي أحاطت بالعالم في الثلاثينات و الأربعينات من القرن الماضي، متمثلة في الكساد العالمي و الحرب العالمية الثانية أدت إلى تغيير بعض المعتقدات في الدول الرأسمالية، حيث بدأت الدعوة إلى المزيد من التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية في محاولة للحد من الآثار المترتبة عن هذه الظروف.

و لقد كان كينز من أوائل الاقتصاديين الذين نادوا بضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بهدف الوصول إلى حالة التشغيل الكامل و المحافظة على نوع من الاستقرار الاقتصادي[20].

افترض كينز أن التوازن لا يمكن أن يحدث تلقائياً كما اعتقد الكلاسيك، و إنما لابد من ضرورة تدخل الدولة باستخدام السياسة الملائمة للوصول إلى الوضع التوازني المنشود.

و لقد ركز على مفهوم الطلب الكلي و التغيرات فيه كمحدد أساسي للتغيرات التي تحدث في المستوى التوازني للدخل الوطني ، كما اعتقد أن العجز في الطلب الكلي هو سبب حالة الكساد التي سادت العالم بداية الثلاثينات و منه فإن زيادة معدلات النمو في مكونات الطلب الكلي ستؤدي لزيادة حجم العمالة و التوظيف ، ثم الاقتراب من مستوى التوظيف الكامل[21].

و يمكن توضيح شكل كل من منحنى الطلب الكلي و منحنى العرض الكلي وفقاً للمفهوم الكينزي فيما يلي :

أ- منحنى الطلب الكلي :

المستوى العام للأسعار

 
يعبر منحنى الطلب الكلي عن العلاقة العكسية بين المستوى العام للأسعار و الناتج أو الدخل الحقيقي و المتمثلة في الشكل التالي :

 

 

 

 

 


يتضح من الشكل السابق ، أنه كلما ارتفعت الأسعار انخفض مستوى الدخل الحقيقي ، و العكس صحيح ، لأن ارتفاع الأسعار سيخفض من مكونات الطلب الكلي ، ممّا يؤدي بدوره إلى انخفاض الدخل الحقيقي.

ب- منحنى العرض الكلي

ث

 

المستوى العام للأسعار

 
يوضح منحنى العرض الكلي العلاقة الطردية بين المستوى العام للأسعار و الدخل الحقيقي.

الشكل رقم02: منحنى العرض الكلي

 

ع ك

 

و

 
 

 

 

 

 

 


يتضح من الشكل السابق، أن زيادة الإنتاج أو الدخل الحقيقي تكون مصحوبة بارتفاع في الأسعار و العكس صحيح حتى نصل إلى مستوى التوظيف الكامل.

و حسب كينز دائماً أن الدخل الوطني التوازني يتحقق عند تقاطع كل من منحنى الطلب الكلي و العرض الكلي، و أن هذا المستوى التوازني قد يتحقق عند مستوى يزيد أو يقل عن مستوى التوظيف الكامل[22].وبالتالي يرى كينز أهمية وضرورة تدخل الدولة باستخدام السياسة المالية بشقيها الأساسيين هما الإنفاق الحكومي والضرائب.

أوضح كينز أن الاقتصاد القومي لا يتصف بالتصحيح الذاتي دائماً ، فالقوة التصحيحية التلقائية تتسم بالضعف ، كما أن الاقتصاد القومي أساساً غير مستقر ، و من ثمَّ فالتدخل الحكومي ضرورة لا مفر منها للتأثير على المستوى العام للنشاط الاقتصادي و تصحيح الخلل في آليات السوق ، و ذلك من خلال تعديل الحكومة لوضعها المالي أي الانتقال بدور الدولة من مرحلة الدولة الحارسة إلى مرحلة الدولة المتدخلة.

و منه كانت النظرية الكينزية نقطة تحول في الفكر الاقتصادي و السياسة المالية، و قد بدأ التحليل الكينزي بنقد التحليل التقليدي و رفض قانون ساي للأسواق الذي يتضمن أن العرض يخلق الطلب المساوي له و تلقائية التشغيل الكامل، و خلص التحليل الكينزي إلى أن مستوى التشغيل و الإنتاج إنما يتوقف على الطلب الكلي الفعال، و أن الطلب لا يتحدد تلقائياً عند المستوى الذي يحقق التشغيل الكامل لموارد المجتمع الإنتاجية.

و وفقاً للتحليل الكينزي، فإن توازن التشغيل الكامل لا يتحقق تلقائياً كما تذهب إليه النظرية التقليدية، و إنما قد يتحقق التوازن عند مستوى أقل من التشغيل الكامل، و بالتالي يخلص التحليل الكينزي إلى أن الانحراف عن التشغيل الكامل هو الوضع المعتاد في النظام الاقتصادي، بمعنى أن هناك قدر من البطالة الإجبارية تظهر في سوق العمل[23]. و نتيجة لكل هذا تخلت السياسة المالية عن قواعدها التقليدية (سالفة الذكر) و اتخذت مفهوماً وظيفياً و أصبحت ذات معنى أوسع من المعنى السابق ، فهي تعني وفقاً للمفهوم الكينزي ، مجهودات الحكومة لتحقيق الاستقرار و تشجيع النشاط الاقتصادي ، فتعدت أهدافها النطاق المالي لتساهم في تغيير البنيان الاقتصادي و الاجتماعي للدولة ، و لذلك أُطلق عليها اسم السياسة المالية المتدخلة لتمييزها عن السياسة المالية المحايدة ، و أصبحت الدولة هي المسؤولة في نهاية الأمر عن سلامة و قوة الاقتصاد الوطني ككل ، كما أصبحت السياسة المالية أداة رئيسية و مسؤولة عن تحقيق التوازن الاقتصادي عند مستوى التوظيف الكامل للموارد الإنتاجية عن طريق التأثير على الطلب الفعال في الاقتصاد و تتمتع السياسة المالية في هذا الشأن بالقدرة على التأثير المباشر على مستوى النشاط الاقتصادي.

ففي أوقات الكساد حيث يقل الطلب عن المستوى الذي يحقق التشغيل الكامل لعوامل الإنتاج ، و بالتالي فإن السياسة المالية بشقيها الإيرادات و النفقات تعمل على زيادة الطلب عن طريق تيار الإنفاق العام مع الالتجاء إلى العجز المنظم في الميزانية و استخدام الضرائب استخداماً يشجع الطلب الخاص على الاستهلاك و الاستثمار بما يضمن زيادة التشغيل و الإنتاج مما يؤدي إلى الخروج من حالة الكساد أو تحقيق حدتها.

أما في فترات التضخم ، حيث يزيد الطلب زيادة تفوق قدرة الاقتصاد الوطني على إنتاج السلع و الخدمات عند مستوى التشغيل الكامل ، و بالتالي يتعرض الاقتصاد الوطني لموجات عارمة من ارتفاع الأسعار ، و عليه فإن السياسة المالية تعمل في هذه الحالة على خفض و تقييد الطلب عن طريق ترشيد الإنفاق العام و زيادة الضرائب مع تكوين فائض في الميزانية لامتصاص القوة الشرائية الزائدة و حجزها عن التداول ، و هكذا يمكن ضبط وقف التضخم أو على الأقل التقليل من حدته إلى الحد الذي لا يشكل خطر ، و بالتالي أصبحت السياسة المالية تستخدم لمواجهة التقلبات الدورية غير المرغوبة في النشاط الاقتصادي ، فتغير الإنفاق الحكومي أو الضرائب سوف يؤديان إلى تغيير ملموس في الطلب الكلي ، و بالتالي مستوى الناتج و التشغيل و ذلك على الرغم من وجود أثر المزاحمة* ، كما أنَّ الميزانية المتوازنة لا تعني بالضرورة حياد السياسة المالية ، بل على العكس من ذلك لما لها من تأثير ملحوظ على النشاط الاقتصادي ، و ذلك وفقاً لنظرية مضاعف الوحدة أو ما يطلق عليه مضاعف الموازنة المتوازنة (BALANCED BUDJET MULTIPLIER )[24].

و سادت هذه الأسس الجديدة للسياسة المالية خلال الأربعينات ، و أفاض زملاء هانسن(hansen) و تلاميذه في تحليل أدوات السياسة المالية و إمكانيتها محاولين إرساء قواعد السياسة المالية تحت أسماء : المالية التعويضية و المالية الوظيفية[25].

و لقد بدا منطقياً نجاح هذه الأسس للسياسة المالية عند تطبيقها في اقتصاديات الدول المتقدمة ، حيث أمكن باستخدامها المساهمة في إخراج اقتصاديات هذه الدول من أزمة الكساد الكبير و معالجة الضغوط التضخمية التي ظهرت خلال الحرب العالمية II.

و لقد دفع هذا النجاح لأسس السياسة المالية ببعض الاقتصاديين إلى المطالبة بتطبيق نفس الأسس التي أتبعت في الدول المتقدمة على اقتصاديات الدول النامية[26] للنهوض بمستويات النشاط الاقتصادي و القضاء على البطالة الإجبارية و المقنعة و رفع حجم الإنتاج و الدخل الوطني ، و منه تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية ، و على هذا ظهر إلى جوار السياسة الاقتصادية سياسة مالية تتفق معها و تستخدمها الدولة للتأثير عليها و توجيهها الوجهة التي تراها و هي في هذا التأثير تزداد قوة كلما اتسع مدى نشاط الدولة الاقتصادي.

 



[1] - طارق لحاج، المالية العامة، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، 1999، ص201.

[2]  وجدي حسين، المالية الحكومية  والاقتصاد العام، الإسكندرية، 1988، ص431.

[3] - محمود حسين الوادي، زكرياء أحمد عزام، المالية العامة والنظام المالي في الإسلام، دار الميسرة للنشر والتوزيع، عمان، 2000،ن ص182.

[4] - عبد العزيز فهمي هيكل، موسوعة المصطلحات الإقتصادية الإحصائية، دار النهضة العربية، 1980، ص323.

[5] - أنظر: Philip . A. klein, the Management of Market, Oriented Economics A Comparative Perspective Wadswor the Publishing company, Belmont, California, 1973, p176.                                                    

[6] - حمدي عبد العظيم، السياسة المالية والنقدية في الميزان ومقارنة اسلامية، مكتبة النهضة العربية، 1986، ص ص 164- 167.

[7] - حمدي عبد العظيم، مرجع سابق، ص 170- 172.

[8] - حمدي عبد العظيم، مرجع سابق، ص173.

[9] - عبد الرحمن يسرى، تطور الفكر الإقتصادي، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1997، ص 159- 161.

[10] - عبد الرحمن يسرى، مرجع سابق، ص173.

[11] - جورج نابهانز، تاريخ النظرية الإقتصادية، ترجمة صقر أحمد صقر، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997، ص81.

[12] - نفس المرجع، ص116.

[13] - عبد الفتاح قنديل، سلوى سليمان، الدخل القومي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979، ص90.

[14] - حامد عبد المجيد دراز، دراسة في السياسة المالية، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ص40.

[15] - عبد المنعم فوزي، المالية العامة والسياسة المالية، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص40.

[16] - عبد المجيد القاضي، اقتصاديات المالية العامة والنظام المالي في الإسلام، مطبعة الرشاد، الإسكندرية، بدون تاريخ نشر، ص323.

[17] - سامي خليل، نظرية الإقتصاد الكلي، الكويت، 1994، ص،ص 202- 206.

[18] - أنظر: Jesse Burkhead, Government budging, John Willy, New York, 1963, p p 11- 13.                             

[19] - حامد عبد المجيد دراز، دراسات في السياسة المالية، مرجع سابق، ص18.

[20] - أنظر:Levine (Chars.) and Rubin (Jrene), Fiscal Stress and Public Policy, Sage Publication, Beverly Helis, London, 1980, p13.                                                                                                                           

[21] - محمدي فوزي أبو السعود، مقدمة في الاقتصاد الكلي، الدار الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص176.

[22] - محمود فوزي أبو السعود، مرجع سابق، ص178.

[23] - عبد الفتاح قنديل، سلوى سليمان، مرجع سابق، ص146.

* - في حالة زيادة G أو خفض T على سبيل المثال سيؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي سوف تؤثر  سلبا على الإنفاق الاستثماري الخاص وبالتالي الحدّ من الأثر الإيجابي لتغير في أدوات السياسة المالية وهو ما يمكن التغلب عليه من خلال تمويل الزيادة في الإنفاق أو تخفيض في الضرائب من خلال الإصدار النقدي الجديد.

[24] - Rudinger Dornpusch, Stanly Fisher, Macro Economics, Mccraw, Hill International Booklom, 1984, p87.                                                                                                                                                              

[25] - حامد عبد المجيد دراز، السياسات المالية، الدار الجامعية، 2002- 2003، ص35.

[26] -  حامد عبد المجيد دراز،مرجع سابق ، ص36.